رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ساجدين له فأخبر بذلك والده، فقال له أكتم ما رأيت عن أخوتك، فكتمها عن أهله وأشقائه، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يلقوه في غيابة الجب، تركوه هناك ليلتقطه بعض السيارة وكان ثمنه بخساً جداً دراهم معدودات.
إنه نبي الله يوسف الصديق عليه السلام، حيث دارت به الدنيا من عزة ودلال والده يعقوب، إلى عتمة البئر، فالأسر، ليباع كعبدٍ لعزيز مصر، ولينتهي به المطاف بمنصب أمين الخزانة وراعي محاصيل أهل مصر، فكان وما زال مضرب الأمثال والدليل الصادق على قدرة الله تعالى، فسبحان مغير الأحوال من حالٍ إلى حال.
هذه حال يوسف الصديق الذي أُلقي في بئر عميق، فمال حال يوسف البحرين الذي أُلقي على شاطئ البحر، ما حاله وهو جثة هامدة بلا أنفاس، ما حاله وهو وحيداً ولم يشتريه المارة حتى بأبخس الأثمان.
يوسف أيها الشهيد أفتنا بما جرى لك، فأخوة يوسف النبي هم من ألقوه بالجب فمن رماك على ساحل جزر أمواج؟ أخوة يوسف هم من تركوه هناك وكان سالماً معافى فمن عذبك وأدماك وأنت في ريعان شبابك؟
لماذا اختطفوك؟ أجبني لماذا قتلوك؟ لماذا أنت يا شهيد؟ لماذا عذبوك للموت السعيد؟ أجب قلبي يا يوسف البحرين فما عاد يحتمل هذا الفراق الأليم؟
يوسف الخير، أراك مقيداً لكرسي التعذيب، تتلقى الضربات تتراها اللكمات وما بين هذي وذي تنهال عليك الإهانات، بقيت هادئاً رغم ألمك فلم يحتملوا هذا الهدوء، لم يكن هدوء العاجز ولا سكون الخائف، كان هدوء الواثق بحكمة ربه الصابر على جراحاته وآهاته، فازدادوا بتنكيلهم ووحشيتهم حتى أزهقوا روحك الطاهرة في غياهب السجون.
لم يعرفوا بعد قتلك كيف يخفوا جريمتهم، فرموك على الشاطئ لعله يغسل بعض عارهم ويمسح ولو القليل من شنار نظامهم، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، فكيف تكون غريقاً وجسمك وثيابك لم يمسسهما الماء، بل كيف مت بالبحر غرقاً وجسمك يحكي رواية التعذيب بأبشع فصولها، لعلهم تخيلوا البحر مارداً متوحشاً جاء من الإغريق مقتنصاً روحك دون غيرك ومختاراً لجزر أمواج متعمداً ترك جثمانك الطاهر عند سواحلها بلا آثار بلل أو غرق.
ولي وقفةٌ معك يا بحر الخليج، أين انسانيتك وأين عذب روحك، أيبقى يوسف على شاطئك ولا تحرك ساكناً لإنقاذه؟ أم تراه لفظ أنفاسه قبل أن تصل إليه؟ لمَ لم تغسله؟ لماذا لم تكفنه؟ ولماذا لم ترجعه سالماً كما عاد يوسف الصديق معافاً ليعقوبه؟
وليوسف الشهيد مظلومية أخرى، فيعقوب عاد يوسفه له وقر به عيناً، ولكن يوسفنا عاد جثة هامدة لأهله، يعقوب إبيضت عيناه من فقد يوسف وأخاه وهو يعلم أنهما بخيرٍ وعافية، بينما والدا يوسفنا فرحا وابتسما حين علما باسشتهاد فلذة كبدهما، فأبوه لم تدمع عينه حزناً على يوسفه، وأمه تلقت التهاني وتريد زفاف ولدها للحده وحور عينه بدل تلقي التعازي والدموع.
لله در البحرين كم أنجبت من أساطير، فلدينا الاكبر والقاسم، لدينا من هشموا ضلعه وكسروا رأسه، لدينا من أسقطوا جنينها أو قتلوه رضيعاً، ولدينا يوسفنا الذي ألقاه قاتلوه على شاطئ البحر ليواسي يوسف الصديق في بئره، فكانت "غيابة اليم" تعانق "غيابة الجب" لتعزف لحن الخلود في جنان الرب الرحيم.
فسلامٌ على يوسف الشهيد يوم ولد، ويوم عذب حتى الموت في غياهب السجون، ويوم أُلقي فوق ساحل البحر جثةً دامية، ويوم يبعث حياً خالداً ضاحكاً مستبشراً بنعيم ربه.
ليث البحرين
١٨-١-٢٠١٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق