بزغ فجر البشرية حين خلق رب السماوات والأرض آدم من أديم ترابها، وخلق منه حواء لتكون له زوجاً وليكونا أساس الذرية البشرية التي يمتد تاريخها على ظهر المعمورة لعشرات آلاف السنين.
وقد مر بنو آدم خلال هذه الفترات الطويلة والمتباعدة بمراحل متعددة من التطور والتخلف، التحضر والهمجية، الإيمان بالله وحده أو الشرك به ووصل الأمر لدى البعض لحد نكران وجود الله والإلحاد به.
لذلك كان لابد من ارسال الأنبياء لما لهم من دور محوري كمبشرين ومنذرين لكي يتم تقويم الإعوجاج الذي يحصل في المنهاج الفكري العقائدي للبشر، فالأنبياء هم البشرى بوجود الله ووحدانيته وبهم يكون التوجيه الصادق لجميع البشر بوجوب طاعة الله وحده لا شريك له والإيمان برسله وما أنزِل عليهم، وبهم تتجدد الذكرى لمن يعتبر بقصص من سلف من الأمم والشعوب التي حل عليها العذاب بعد مخالفتها للتعليمات الإلهية.
ولعل أبرز الأنبياء والرسل هم الرسل الخمسة أولو العزم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، فهم القدوة المثلى والشخصيات الأرقى بورعها وصبرها وجهادها وتضحياتها في سبيل الله ورسالته.
فنوح عليه السلام دعا قومه ٩٥٠ عاماً متواصلة ولم يعجز ولم يتعب رغم طول فترة نبوته، ومع ذلك لم يستجب له إلا النزر اليسير من عشيرته وأغلب من اتبعه كانوا من الفقراء والمعدمين. وحين جاء وعد الله أمره الباري ببناء سفينة ضخمة في وسط البر، حينها استهزئ به غالبية القوم، فأي عاقل يبني سفينة ضخمة بهيكلها الكبير في وسط البر، وألصِق بالنبي نوح ظلماً لقب الجنون ولم يبقَ معه أحد من أهله وقومه إلا عدد قليل جداً آمن به وركب معه سفينته، ووصلت محنة النبي إلى أن يتخلى عنه ولده وزوجه ليستحقا عذاب الله دنياً وآخرة، وانتصر نوح بإرادة ربه على الفاسقين وحظى بمجد الدنيا وخلود نعيم الآخرة.
ولإبراهيم عليه السلام من صفات الحلم والصبر والايمان بخالقه ما تهفو له الأرواح، فمن هذا العظيم الذي يتأمل بخلائق ربه ويفكر بإلاهه بعيداً عن التبعية العمياء، إنه خليل الله الذي رفض عبادة الأصنام وقام بتحليل السؤال الأهم "من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟". وانتصر بتفتح عقليته الراشدة لعبادة الله وحده لا شريك له، وحطم الأصنام بقبضة يمينه وترك الفأس لدى أكبرها مصداقاً لقوله تعالى "يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، فأحرجهم حين طلب منهم سؤال أكبر الأصنام عن سبب وجود الفأس لديه، ولما تيقنوا من عجزهم بمقارعة الحجة بالحجة أمروا بإحراقه في نار هي الأعظم بالتاريخ، يقال إنها بقت تستعر لشهور عدة لدرجة أنه بمجرد مرور الطير ولو من مسافة بعيدة كانت تشويه بلهيبها في لحظات.
وعاد لهم إبراهيم بأمر ربه وهو واثق الخطوات، هزمهم ثانية وثالثة ورابعة ولكنهم ما اتعظوا من كل ما جرى له، وواصلوا تكذيبه ووصفه بالجنون والزندقة ولكن هيهات لهم أن ينالوا منه، وهل يُهزم خليل الله المشهور بالصبر والذي أراد ذبح ولده النبي اسماعيل امتثالاً لأمر ربه، فنصره الله مكافأةً لصبره وجعل من ذريته الأنبياء والأوصياء والصالحين إلى يوم يبعثون.
وحين بعث الله كليمه موسى ومعه أخاه هارون لفرعون الذي تجبر وعلا وقال أنا ربكم الأعلى، استهزأ به الملأ من قومه وسخروا منه واتهموه بالجنون، فليس من العقل والحكمة مواجهة فرعون الذي طغى ومارس العقاب الجماعي واغتصب النساء وقتل الأطفال، كيف بهؤلاء العقلاء يتقبلون مقارعة فرعون في مجلسه والقول بصوتٍ عالٍ له إنك يا هذا بشرٌ عادي ستموت ومصيرك إلى زوال، إنها المواجهة الأصعب بين الحق والباطل ولا يشارك بها إلا ذو حظٍ عظيم.
ونصر الله نبيه موسى، فهزم بمعجزة الثعبان شعوذة سحرة فرعون، فانقلبوا لله عاكفين ساجدين في دقائق معدودات بعد عمرٍ مديد في السحر وعبادة فرعون، وما هانوا ولا حزنوا ولا تراجعوا عن ايمانهم رغم تهديدات فرعون وغطرسته، وحقداً وغيظاً من بطولتهم صلبهم فرعون حتى الموت لأيامٍ طوال بعد أن قطع أرجلهم وأيديهم من خلاف، وبهذا الموقف الايماني البطولي الخالد انتصر موسى وهارون على فرعون وهامان، وسحقوا مزاعم الجنون والتشكيك التي أطلقها ملأ قومهما وأصبحا من عجائب الدهر في بأسهما ورسوخ ايمانهما.
ولروح الله عيسى بن مريم عجائب لا تُحصى، فمن حمل أمه وولادته الاعجازية من غير أب، لإحيائه الموتى وعلاجه لأمراض لا يمكن معالجتها كالبرص، ورغم ذلك شكك الغالبية العظمى من قومه به واتهموه بالجنون والسحر والشعوذة، حورب بعنجهية وتحت غطاء ديني بغيض يجهل الناس ويتحكم بقناعاتهم وعقلهم لا إرادياً، ووصل الأمر لتكفيره ورميه بأبشع الأوصاف فقط لأنه يريد العودة لمنبع الايمان الصافي المتمثل بعبادة الله وحده لا شريك له وترك تصنيم الناس لبعض أحبار بني إسرائيل من الذين نصبوا أنفسهم شركاء عملياً للرب الواحد القهار.
وانتصر عيسى بأمر ربه الذي نجاه من القوم الظالمين، وانتشرت الرسالة التي ضحى وأمه العذراء من أجلها لتكون الديانة الأوسع انتشاراً بالعالم، وذلك مصداقاً لقوله عليه السلام وتنبأه من إنه سيأتي يوم سيصدح به الناس بما يعتقدون به في وضح النهار بعد أن كانوا يخفونه خوفاً في الظلام.
وختاماً كانت نبوة سيد الكائنات وعلة وجودها، محمد بدر التمام صلى الله عليه وآله العظام، الذي استهزئ به قومه لأكثر من ثلاثة عشر سنة، وحوصر لثلاث سنين في شعب عمه أبي طالب ومنع عنه الزاد والماء حتى ماتت زوجته أم المؤمنين خديجة وعمه في عام الحزن وكادت تزهق روحه لولا العناية الإلهية وفدائية علي بن أبي طالب عليه السلام في ليلة الهجرة للمدينة.
كما أتِّهم بالزندقة والجنون، وحورب في طعامه وشرابه وكل أمور حياته، وقالها عليه الصلاة والسلام إنه ما أوذي نبي مثل ما أوذي هو، فهو الذي طلب أجره من الناس محبته في قرابته وأهل بيته، ولكن بالله عليكم هل تجرع أهل بيت نبي كما قاسى آل بيت المصطفى، فقبر فاطمة المخفي يحكي ظلامتها، ورأس حيدر المفضوخ بسيف المرادي المسموم في محراب صلاته يروي قصة آلامه، وجسم الحسن الذي أخضر حتى بات كأوراق الشجر الذابلة وكبده المتقطعة تعزف لحن الجراحات الدامية، وكل هذه المصائب لا تقارن بمصيبة الحسين الذي ذبح عطشاناً من الوريد إلى الوريد وهشمته حوافر خيول بني أمية على تراب كربلاء وطيف برأسه بين البلدان مع أرامله وأطفاله المسبيين وبقي جسده المبضع ملقاً على التراب بلا تغسيل أو تكفين أو دفن.
هذه العذابات والآلام هي التي حفظت الدين من الضياع فكان انتصار أكرم الرسل وخاتم الأنبياء مدوياً مستمراً إلى يوم القيامة، وبهذه الجراحات هزم الحق الباطل ودحض بجهاده مزاعم الجنون والسحر التي أطلقت على محمد (ص) من شرار قومه.
أحبتي يا أحرار البحرين، إن قيادتكم ورموزكم بالسجون اتهمهم الكثيرون بالجنون واستباق الأمور، ومنهم البطل الاستاذ عبد الهادي الخواجة الذي سبق الجميع بطلب تنحية خليفة وبناء ملكية دستورية ومحاكمة العصابة الحاكمة، فسقطه البعض وأطلق عليه لقب "مجنون" وقال آخرون إنه لا يعرف من أين تؤكل الكتف.
وتكرر الأمر بعد اعلان الأستاذ حسن مشيمع قيام التحالف من أجل الجمهورية، وكذلك مع خط العمل الاسلامي وباقي الرموز، فأقل ما يقال عنهم إنهم لا يمثلون إلا جزأ صغير من المعارضة مطلبها غير واقعي، وهناك من اتهمهم بالغباء السياسي والجهل وعدم حسن التصرف.
ولكن سيثبت الزمن من هو على صواب ومن هو على خطأ، من سيخلده التاريخ بطلاً حياً لن يموت ومن سيكون مجرد رقم زائل لا خلود له، فالقيادة الحقيقية تتقدم الجميع بتضحياتها وعقليتها ونظرتها، القيادة الرسالية لا تنتظر تحرك الناس لتصعد وتنزل من خطاباتها ونهجها، بل هي من تتصدى وتقود وتضحي لتكون المثل الأعلى والقدوة الأروع في طريق الحق. ولا يوجد أجمل روحاً ومثالاً راقياً مثل شهيد الاسلام العظيم آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، الذي قضى تحت التعذيب في سجون صدام الرهيبة وقهر بدمائه قاتله وتنبأ لصدام وبنيه بالخسران المبين وهذا ما حصل لهذه العائلة المجرمة التي انقرضت تباعاً كإنتقام إلهي من القتلة ودرس للبشرية جمعاء.
أحبتي، قفوا وفكروا وتأملوا، اعملوا عقولكم وحرروها من التبعية العمياء، كونوا كنوح في صبره، إبراهيم في وعيه، موسى في شجاعته، عيسى في اصراره ومحمد في رحمته وتضحيته. اتبعوا القيادة الحقيقة للثورة التي ضحت بالغالي والنفيس في سبيل الله والوطن والتاريخ من أجل بناء دولة الحق التي تحترم مواطنيها ولا تفرق بينهم، دولة لا يحكمها آل خليفة المجرومون السفاحون القتلة الذين لم يراعوا بيوت الله فهدموها ولا كتابه فاحرقوه، اغتصبوا الرجال والنساء ومنهم علماء أجلاء.
كونوا مع قيادتكم الأحرار في داخل السجون، فرموزكم سيغيرون بتضحياتهم وجه التاريخ بالخليج للأبد، والخليج الذي يعتبر منجم العالم للطاقة الطبيعية ستكون له بصمته على جدار الزمن بفضل دم شهدائكم وصمود رموزكم، فتوقعوا زلزالاً مدوياً بالعالم سببه أنتم إذا استمريتهم على نهج الثورة، نهج اسقاط نظام آل خليفة، فإنه نهج الحق في مواجهة الباطل، إنه نهج المرسلين والمصلحين في مواجهة الطغاة والفاسقين، إنه حقاً نهجنا القويم.
ليث البحرين
٢٩-٢-٢٠١٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق