زينب .. تقرير المصير

‏زينب .. تقرير المصير

يحق لكل شعب ان يقرر نظام الحكم الذي يحكمه بشكل حر لا يؤثر على مكوناته المختلفة ويعطي الحرية الدينية والعقائدية بما يحفظ كرامة الانسان والسلم الأهلي لأبناء الشعب، فحق تقرير المصير هو حق أصيل لا يجوز أن يتخلى عنه بني آدم بعد ان كفلته الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الدولية.

فالنضال من أجل العيش الكريم وبحرية حقيقية تحفظ للانسان كرامته وتصونه في منزله ومجتمعه هو المضمون الحقيقي للثورات والنهضات الفكرية المتعاقبة منذ فجر الخليقة وحتى هذه اللحظة، فتكامل التجارب الانسانية المتراكمة أفرز أحقية الانسان أفريقياً كان أم أوروبياً بحقه في ممارسة شعائره والحياة المرفهة بعيداً عن التسلط والعنف والتمييز.

لذلك تعاقبت الثورات والانتفاضات، فتقرير المصير هو ما يريده كل ذي فطرةٍ سليمةٍ له ولأهله ووطنه، ولكنه ما لا يريده الطغات والجبابرة الذين أخذوا رقاب الناس مطية لبقائهم في عروشهم ولو سالت بحور من دم في ذلك السبيل.

ولعل من أروع الثورات المطالبة بالحرية وتقرير المصير هي الثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا تدريجياً مما ساهم في وضع اللبنة الأولى في تغيير خارطة العالم وإعطاء الأمل لجميع الشعوب بأنها مهما قمعت وضربت وهمشت فالنصر حليفها ولو أدى ذلك لتقديم آلاف القرابين.

والمثل الآخر لثورات تقرير المصير هي الثورة البلشفية ضد أباطرة روسيا الذين اتخذوا من الشعب الروسي عبيد لا قيمة لهم، وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع الشيوعيين في اعتقاداتهم فإن ثورتهم حققت نقلة نوعية في الصراع من أجل الحرية والقضاء على الطبقية، وجاء امتداد لها ثورة كوبا بقيادة بطلها جيفارا الذي قدم نفسه أسطورة تاريخية للنضال العالمي من أجل العيش الرغيد والبحث عن حق تقرير المصير في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية وكذلك أفريقيا حتى بات قرباناً فذاً في درب آلام الحرية.

ومن النساء من ضحت في سبيل حرية شعبها ومقاومة أعدائه، ومنهن جان دارك الصبية الفرنسية التي اُحرقت حتى الموت وتحول جسدها رماداً ذهب في مهب الريح ولكنه ارعب من احتل وطنها وبقي ذكرها وخاب من قتلها وأحرقها حتى تم اعتبارها قديسة في تاريخ أحرار اوروبا.

ولنا من النساء أسطورة لا مثيل لبريقها وانسانيتها وبطولتها، إمرأة عظيمة قد قدمت أكثر من ٧٠ قرباناً من أجل الحرية وفداء لدين ربها ورسالة جدها المصطفى، انها العقيلة زينب التي شقت كتاب الزمن بأحرفٍ من نور تحار العقول لنقاءه وتنجذب الارواح لرائحة عطره الزكية.

زينب، وما أدراك ما زينب، إنها المثل الأعلى في النضال من أجل الحرية والجهاد من أجل تقرير المصير، وأي مصير هو الذي قررت انتصاره الحوراء، هو مصير الدين الذي حمل رسالته جدها وضحى في سبيله أمها وأبوها وأخواها، فوقع العبء بأكمله على عاتقها، إما أن تثبت وتصمد ويستمر الدين نقياً خالصاً لله وإما أن تنكسر وينكسر معها كل ما قدمه أهل بيت النبوة والمسلمون الأوائل من أجل الاسلام المحمدي الأصيل.

وجاء يوم عاشوراء ليضحي الحسين ويقدم وروده التي ما عرف التاريخ مثل بسالتها وشجاعتها، قدمهم واحداً تلو الآخر من أصحاب وأخوان وعيال، حتى طفله الرضيع قدمه لله جل وعلا قرباناً أبكى أهل الأرض وأملاك السماء من فداحة ذبحته على صدر والده يرفرف بروحه للجنان، وجاء دور الحسين وحيداً فريداً لا نصر له أو معين ولكنه لم يهتز ولم ينكسر، بالله عليكم هل راقب الحسين ماذا سيفعل له العالم أم أنه قرأ توازنات القوى آنذاك، هيهات منا الذلة أطلقها أبو عبد الله وهو يعلم أن جسده الطاهر سيبضع ويقطع إرباً إرباً ولكنه ما تزحزح عن تقرير مصيره فقدم نفسه شهيداً لم تنجب الانسانية أروع من ثورته وعزيمته.

وقبيل استشهاده سمعت زينب انينه، كانت تريد ان تنصره فعجزت عن ذلك، كيف لا وهي من سلمته جواده ذاهباً للميدان وحده، نعم سمعت أنينه وألمه، نادته وهي فوق التل الزينبي اخي حسين، ابن ابي وامي يا حسين، نور عيني يا حسين اجبني، حاول النهوض فوقع، حاول ثانياً فسقط، حاول ثالثة ولكنها القاضية فقد خارت قوى جسده الذي كان مقطعاً ينفث آلاماً لا قبل لبني البشر بها، وثب له الشمر فركله وبالنعال فوق الصدر علاه عامداً بالسيف كي يقتله، رأت ذلك كله زينب ولكنها لم تهتز لم تنكسر، بل إنها حين ذبح الحسين ذهبت له ورفعت جسد شقيقها مقطوع النحر، محزوز الرأس من القفا صارخة لخالقها مناجية له بجروحها التي تنهد الجبال لعظمها وشدتها: اللهم تقبل منا هذا القربان.

أنتنازل عن حق تقرير المصير ومثلنا الأعلى محمد والقدوة لكفاحنا وصمودنا زينب، أما علمتم أنها وصلت الشام مسبية يطاف بها من بلدٍ إلى بلد، يرحلون فيها من خرابة إلى خرابة وسط احتفالات الشامتين ورقص الملوثة عقولهم بالاعلام اليزيدي الحاقد والقيد ممتد من رقبة الحوراء حتى جامعة زين العابدين مروراً بأهل بيت النبوة صغيرهم وكبيرهم، ولكنها لم تهتز لم تنكسر بل حققت اعظم انجاز للدين وهزمت من قتل اهلها وسحقته بمنطقها وصمودها، بالله عليكم أما عرفتم انها حين قالت ليزيد في قصره وامامها آلاف الشامتين (كد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لن تمحو ذكرنا) انها بهذا القول والخطبة التاريخية قد قررت مصير الدين بأكمله وحفظته من الاعوجاج والتشويه ليوم يبعثون، فكيف بنا ونحن من نسير على خطاها لا نقرر مصيرنا كما قررت ونصبر كما صبرت وهي امراة وحيدة بين يدي طغات كفرة ونحن كثرة ومعنا شعوب الارض والاعلام والحقوقيين.

ان كانت زينب وهي المراة العظيمة قد هزمت الظالمين ودحرت مخططاتهم الشيطانية عرفاناً ووفاء لتضحيات اهل بيت جدها وخصوصا اخيها الحسين فحري بنا ان نواصل درب الشهداء الذين مضوا من أجل الحرية التي لا يوجد بها محل لأنصاف الحلول، فلقد شخصت زينب مكمن الخلل الحقيقي وهو الساقط يزيد ونظامه الفاسد وحاربتهما علناً امتداداً لواقعة الطف المجيدة، وكذلك فعل شهدائنا ووضحوا بدماءهم بما لا يدع مجالاً للشك ان الخلل الحقيقي ليس مع النظام بل فيه متمثلاً بحمد رأس الفساد والعصابة الحاكمة.

فإن قدم الحسين رضيعه فقد قدمنا ساجدة وفدك، وإن قدم شبانه فقد قدمنا سيد هاشم وعلي الشيخ، وإن قدم فرسانه فقد قدمنا عباس الشيخ وصلاح عباس، وهذا علي المؤمن بقي ينزف دمه عبيطاً على الشارع العام هناك بين منطقتي القفول والبرهامه وقد قطعت اعضاءه التناسلية في وضح النهار لتصهره الشمس بلهيبها كما صهرت جسد المولى بلا رداء يوم عاشوراء، وذاك علي بداح مكسر الاضلاع مبضع الاجزاء دهسته خيول بني خليفة تحت حوافرها حتى عجنته كما طحنت خيول بني سفيان جسد الحسين في كربلاء، فخيامهم المحروقة خيامنا ونساءهم المعذبة بحقد السياط هن نساؤنا اللائي تم تعذيبهن بوحشية الحقد الدفين.

أي شعبي، توكل على الله وقرر مصيرك ولا تبالي بحسابات الدنيا وليكن نبراسك الحسين وقدوتك زينب التي لاقت عذابات الدنيا فوق قلبها الصبور ولكنها صمدت وثابرت وتحدت وقررت مصيرها بيدها وانتصرت ودفنت في عقر دار عدوها وأضحت مزاراً للأحرار ومناراً للمستضعفين، وقد حددت هدفها وحددت عدوها وواجهته بقوتها ومبدأها فظفرت وخسر من عذبها وجرعها الغصص.

كونوا حسينيين في عطاءكم، زينبيين في صمودكم، لا تتراجعوا عن حق تقرير المصير فتندموا وتضيع كل مجهوداتكم وتضحياتكم، فالنصر حليف من آمن بحقوقه وسعى إليها،النصر حليفكم ولو كنتم في قعر السجون تعذبون وتهانون كما أهين وعذب رموزكم المنتصرون، النصر حليفكم ولو مضيتم في رحلة السبي من المنامة للرياض، وليكن شعاركم الصادق هيهات منا الذلة، ومبدأكم لن نركع إلا لله، وهدفكم الذي تسعون إليه:
الشعب يريد تقرير المصير.

ليث البحرين
ذكرى وفاة السيدة زينب الكبرى
٥-٦-٢٠١٢

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق