قال الإمام الصادق عليه السلام: ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج. صدق صادق أهل البيت، نعم فالعبرة ليس بالكثرة والضجيج والزحام والهتافات ورفع الشعارات المدوية، العبرة كل العبرة بالتطبيق وجعل العمل قولاً وفعلاً متطابقاً في سبيل الحقيقة.
فكثرتنا في ميدان الشهداء كانت كثرة عدد لا كثرة قلوب، فالعديد منا لا يريد التضحية ولا يريد الجهاد في سبيل الله بحجة التعقل والظروف والتقية، ولكنه حين يأتي عاشوراء تراه أسداً يزأر بهتاف "لبيك يا حسين"، فأي تلبية هذه وأي روحٍ كاذبة.
بعضنا يتاجر بدم الحسين وتضحياته، يشق الصفوف بحجة الموالاة والوفاء لأبي عبد الله، يضرب الأخوة والتوافق المذهبي عرض الحائط فقط ليشتهر بين الناس، فخدمة الحسين لديه تجارة وربح وشهرة ومكانة اجتماعية، وحين تحدث أقل موجة ثورية تراه فأراً بحجمه نعامةً بدفن رأسه بالتراب حفاظاً على مكاسبه الآنية الضيقة.
بعضنا ما زال ينمو على اسم الحسين رادوداً حسينياً أو شاعراً يصدح بالولاء لأهل البيت وبشعارات الحسين وأروعها هيهات منا الذلة، وللأسف حين تقع الزلزلة لا يحرك ساكناً ولا ينصر مظلوماً وكأن على رأسه الطير من شدة ضياعه وحيرته.
لهف قلبي يا أبا عبد الله كم منا من تاجر بدمك ليعلو ويتسلق، كم منا من يذكرك ليخلد اسمه لا عشقاً لك، وكم منا من يدوس قيمه وأخلاقه للسمعة والشهرة لا لخدمة الدين والحرية.
عزاءك يا حسين بالقلة من الحجيج، بالصادقين من الموالين، فعشاقك تلبياتهم لا تكون بحناجرهم، لا تكون بشفاههم، لا تكون بالشعارات ولا العزاء ولا اللطميات ولا التطبير ولا أي شعيرة أخرى.
عشاقك يا حسين يلبونك بالدم في ساحات الوغى، تنزف دمائهم لتجري حوراً تعانق عنقائك يا أبا عبد الله، تراهم لا يهابون الموت في صنع الحياة، ولنا منهم كوكبة علمتنا معنى التلبية ومعنى الولاء.
منهم علي بداح، الذي هشموه وحطموا عظامه في سبيل الحرية، بعد أن قدم عطاءاته في ميادين تقرير المصير، عاش الثورة في مدرسته وعلى طاولة دراسته، وعاشها في بيته وهاتفه وحساباته الالكترونية فصدقت حسينيته قولاً وفعلاً ودماً.
ومنهم سعيد الاسكافي، الذي تم تعذيبه والاعتداء عليه جنسياً من قبل معذبي وجلادي النظام لمدة ٤٨ ساعة متواصلة من الجراحات والألم، ففارق الدنيا وهو يصيح في رمقه الأخير "هيهات منا الذلة".
ومنهم بطل الميدان وقاهر النظام الخليفي عبد الرضا بوحميد، الذي داعبت مخيلته الشهادة في مسيرة كسار فاتحة الشهيد علي مشيمع، تراه يخلع قميصه تارة وتارة يلبسه، ليس تردداً منه ولكنه التفكير العميق بحسم الامور بين الموت والحياة، تراه بعد حين يتراجع بين الشباب ليقطع الشك باليقين تماماً على درب الحسين، وتراه أخيراً رافعاً لقميصه فوق رقبته، شاهراً روحه، مؤتزراً كرامته وبسالته، طلق الدنيا ثلاثاً فداء للحرية التي تيقنتها روحه، قهر الدبابات بدمه وصدره العاري، وأبت روحه أن تفارق الدنيا قبل أن يرجع شعبه بعزة وكرامة ورجولة للميدان، فحق له لقب أمير الشهداء.
ومنهم المثل الاعظم للحسينيين في بلدي، بطل الشهداء بلا منازع، من لاقى من التعذيب ما لا يمكن وصفه، انه الشهيد السعيد عيسى قمبر الذي قتل من اعتدى على عرض حرائر شعبه، ليلقن الاجيال والدنيا درساً ملؤه الكرامة وعنفوانه الغيرة والمروؤة، عذبوه علقوه جلدوه ولكنه لم يركع، حين تم الحكم بالاعدام عليه إنهار أهله ولكنه خر لله ساجداً بالمحكمة رغم الاغلال وهتف في وجه القضاة "فزت ورب الكعبة". عانى من التعذيب لدرجة تكسير أضلاعه، فكانت روحه تتعذب مع كل شهيق وزفير، مما جعله ممنوعاً من النوم لشهورٍ طوال. وحين أعدموه، مزقوا جسده بأكثر من أربعين خرطوشاً من الرشاشات لدرجة غابت معه ملامحه تماماً، وما توقفوا عند هذا الحد بل دفنوه سراً إلا بحضور اثنين من أفراد أسرته اللذين هالهما ما رآه من تمزيق جثمانه، ودفن بلا تشيع ولا صلاة ميت عليه، وتم منع أهله وقريته من إقامة مراسم العزاء عليه، ليسطر اسمه بحروف من دماء حسينياً خالداً في تاريخ البحرين.
عشاقك الصادقون يا حسين شاركوا بعزاء أمك الزهراء عليها السلام، في وقت الشدة والقمع، خرجوا بأعدادهم القليلة بكبارهم وصغارهم، برجالهم ونسائهم، خرجوا وقمعوا وقدموا دماءهم في سبيل الله وسبيل رسوله.
هكذا هم الحسينيون، بدمائهم تلبياتهم، بصمودهم عزائهم، فهم قطب الرحى في عالم العشق الالهي، وهم عظماؤنا ووقود نصرنا وبقاء نهضتنا، فتحية لكم يا مدرسة الحرية، وهنيئاً لكم منزلتكم العظيمة، ونقولها مدوية للعالم كله:
أنتم أنتم .. عشاق الحسين.
ليث البحرين
٢٨-١١-٢٠١١
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق