ومثلي لا يبايع مثله


قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف محنته مع معاوية ودهاته "عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه" (والله ما معاوية بأدهى منِّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس).

لهذا الحديث الكثير من الشجون والمدامع، فجراح علي من دهاء الأربعة وخبثهم التاريخي تدمي قلب محبيه، فهم سبب مقتل عثمان الذي علقوا قميصه الملطخ بالدم بعد ذلك ليقودوا الشاميين في حرب علي، وهم الذين حرضوا سراً وعلناً لخروج عائشة أم المؤمنين وأوصلوها لمعركة الجمل الظالمة، وهم من دخلوا حرباً قُتِل فيها الآلاف من حفظة القرآن الكريم في وقعة صفين وقتلوا فيها عمار بن ياسر الذي قال له سيد المرسلين "يا عمار تقتلك الفئة الباغية"، وهم من سببوا التحكيم المشهور الذي لولاه لتم القضاء عليهم وما سببوا الفتن والمجازر الكبرى ومنها مذبحة كربلاء، وبدهائهم زرعوا فرقة الخوارج المنشقين في جيش علي وكان ما كان من معاركة النهروان التي تقاتل بها الكوفيين ضد بعضهم البعض وانتهت بهزيمة ساحقة للخوارج.

كل هذه الجراحات والآلام كان بمقدور علي أن يتجنبها بكل يسر وهو صاحب اللسان الفصيح والعقل الراجح، وهو باب مدينة العلم التي لا يمكن الوصول إليها من دون معرفته وحكمته، وهو من قال متحدياً مستطيعاً سلوني قبل أن تفقدوني، وهل قالها غيرك يا أبا الحسن، فلماذا لم يهزم ذكاء علي مكر معاوية وأقرانه؟ لماذا كان خبثهم أكثر وقعاً وأمضى تأثيراً؟

وهنا تأتي إجابة أمير المؤمنين بمنهجيته المحمدية الأصيلة، فعلي لم يترك معاوية ولا عمال السوء ولو للحظة واحدة على الأمصار الاسلامية رغم علمه من مقدرة وتمكن معاوية من الشام التي حكمها لأكثر من ٢٠ عاماً حتى سماه أحد الخلفاء "كسرى العرب"، نعم علي يعلم علم اليقين أن معاوية ملك غير متوج وأن مجاراته أفضل سياسياً حتى يتمكن الخليفة الجديد من السيطرة على جل الأمصار ويتفرغ له بآخر الأمر، ولكن هيهات هيهات ما ذلك بفعل الصادقين وعلي زعيمهم الأروع وهو صوت العدالة الانسانية، فلقد سجل أروع وأنقى درس بصدق القيادة وميدانيتها حينما لم يجاري معاوية وأمر بعزله بلا تردد ليعلم الجميع أن لا مجاملة في الحق وتحقيقه مهما بلغت الصعاب والتكاليف.

ولكنا مع الأسف لم نصل بعد لروحك علي، لم نصل لصدق معدنك وحكمتك وأخلاقياتك، فراح بعضنا يماشي طاغية زمانه بحجة الحكمة والاطلاع وكبر السن والشهرة، فلقد قال قائلٌ منا "أطالب جلالة الملك حمد - حفظه الله - بإقالة رئيس وزرائه سمو الشيخ خليفة بن سلمان"، قالها وهو الحكيم الخبير بأمور الدين والدنيا.

كيف تأتي بعضنا هذه الجرأة ليتكلم بهذه الطريقة، كيف لا تغضب عوائل الشهداء والجرحى والمعتقلين بسبب هذه التصريحات الكارثية، فلقد غرستم في قلوب أبطال ثورتنا الذين يتلقون الرصاص بصدورهم العارية الكثير من الجراح، فمن حوار سري لم ينقطع طوال فترة اعتصامنا بميدان الشهداء فضح وقائعه تقرير بسيوني، لمصافحة القتلة بوفاة قريبة خليفة، للمشاركة المخجلة بحوار الطرشان، مواقفٌ أتعبت الشعب وآلمت الكثير من الأنفس الأبية.

فقبل أيام جلست مع أحد الأحرار الذين فقدوا عيونهم ومعه مصاب بالشوزن في ظهره وكلاهما بالعشرينات والثلاثينات من عمرهما، سألني بعينٍ دامعةٍ البطل الذي فقد إحدى عينيه: هل هذا هو الذي قدمنا دمائنا من أجله، هل بعد كل هذه الدماء والتضحيات والمجازر نرجع لنطالب حمد بالحوار وأن يقوم بتعديل الميزان؟ هل هذا هو العدل الذي نبحث عنه ونحن نقول للقاتل الأكبر والمسؤول عن كل الجرائم "جلالة الملك"؟

يرد عليه مصاب الشوزن، الذي لا يستطيع النوم على ظهره فينام غالباً على بطنه، ولا يتحمل البروده بسبب وجود عشرات الشظايا بظهره وقد عانى عذابات السجن لسنوات طوال، يجيب بلهجةٍ تهكميةٍ قاتلة: نحن لا نفهم بالسياسة والدين لذلك عذبونا ورمونا بالرصاص والشوزن، فمن يفهمها لا يصيبه على أسوأ التقادير إلا مسيلات الدموع .. قالها وابتسم ابتسامة المجروح للأبد الذي قدم للوطن ولإسقاط النظام كل ما يملك ولكنه بات متيقناً أن تضحياته وتضحيات أسرته ليست إلا رقماً سيوضع على طاولة الحوار مع القتلة.

عجزت عن الرد وإكمال الحديث معهما فقبلت يد أحدهما ورأس الاخر وقبيل ذهابي سألني مصاب الشوزن: هل يجوز مبايعة يزيد .. عذراً حمد!!
نعم لقد تقصد الخطأ لإيصال الرسالة التي أرادها والتي ما زالت بعقلي وقلبي حائرة تبحث عن إجابة.

فهل يجوز الولاء لحمد بعد الذي إقترفه، هل يجوز شرعاً مبايعة من هدم مساجد الله وأحرق المصاحف ومنع الشعائر كما فعل يزيد حين ضرب الكعبة بالمنجنيق. هل يجوز شرعاً وعرفاً ومنطقاً أن نرضا بحاكم روع جنوده ومرتزقته الناس الآمنين النائمين في ميدان عام مفتوح الساعة الثالثة فجراً وقتل منهم ٤ واصاب عشرات، منهم ٤ بحالة الخطر واختفى العشرات حتى عُرِف مصيرهم بعد أيام طوال وذلك ما فعله يزيد تماماً حين استباح جنوده المدينة حتى حملت ألف بكر من سفاح نتيجة إباحة كل المنكرات لمرتزقة بني أمية وهو ما حدث للنساء بالسجون الخليفية من تحرش واغتصاب لكثير منهن وقد ثبتت أكثر من حالة لدى الحقوقيين وما خفي كان أعظم.

لقد تجاوز حمد كل الحدود كما فعل يزيد تماماً وبكل صلافة وجرأة كررها مراراً وتكراراً أن كل ما حدث في فترة السلامة الوطنية من انتهاكات وتجاوزات كان بأمره ودرايته التامة، فهل يجوز بعد كل هذا أن نقول له جلالة الملك.

يا من تملكون الضمير الحي أجيبوني، هل من الصدق أن يهتف أحدنا فوق المنصات وفي الساحات هيهات من الذلة وبعد ذلك يناشد القاتل بصاحب السمو الملكي خليفة بن سلمان، هل هكذا توفون للشهداء، هل شعاراتكم "لا تراجع" و"مطالبنا وطنية" و "صمود" هي لبقاء الأسرة الحاكمة وتكميم أفواه الشباب ومنعهم من الدفاع عن النفس لإنها تضر بصورة الثورة، وهل كلامكم وأفعالكم ازدهرت بها ثورتنا ومضت للنصر أم إنكم حولتموها لأزمة سياسية فقط، وأصبح يسقط حمد جلالة الملك بقدرة قادر، وبدل محاكمته لما اقترفت يداه هو وأبنائه تم انزال السقف للمشير والمجلس العسكري فقط فهل هكذا أنتم ماضون للنصر.

تجرعنا السموم والرصاص، أحرقنا وضربنا واغتصب الكثير منا لهدف واضح صدقنا النية للوصول له بالدماء ولن نتراجع عنه وهو اسقاط النظام، صمتنا كثيراً على تقزيمنا وإهانة عقولنا حتى وصلت الأمور للاستهزاء التام بما ندافع به عن أنفسنا وتحقير عددنا والتحدث عنا كأقلية مخربة لا تخدم الثورة وليست لها الحكمة والبصيرة لمواجهة إجرام النظام، ورغم ذلك بقينا صابرون حفاظاً على وحدة الصف، ولكن أن يقال للقاتل جلالة الملك ويطلب منه التدخل للاصلاح فهذه مهزلة لن نصمت عنها، لن نترككم تتحدثون عنا وكأننا ثورة شبابية متخلفة من الدرجة الثانية وأنتم عمالقة السياسة وناقة الله وسقياها بالحنكة العلمية والحكمة الميدانية التي طالما جرحتنا منذ رضيتم بالاشتراك ببرلمان تافه مقيد بيّض وجه النظام وساهم في تلميع صورته.

فلتعلم الدنيا بأسرها إننا الشباب نحن الثورة، نحن الغضب، نحن الكرامة، نحن من قلناها مراراً وتكراراً سنعود بأكفاننا لميدان الشهداء ولم نتردد ونقول "العودة للميدان ليست نصراً"، نحن قطب رحى الثورة، نحن من قدمنا جلودنا المحترقة وأعيننا الدامية وقلوبنا المثخنة بالجراح من أجل اسقاط النظام، نحن علي مؤمن من رجالات الاستاذ عبد الوهاب حسين، نحن عبد الرضا بوحميد عملاق الشهداء وهو تلميذ الاستاذ حسن مشيمع، نحن علي بداح وعلي الشيخ واحمد القطان وأحمد العرنوط وعلي صقر وسيد هاشم سعيد وعلي القصاب الذين مضوا للشهاده بهتاف يسقط حمد وتحت راية اسقاط النظام.

ونحن من نمضي في درب الحسين الذي أعلنها بأشلائه هيهات منا الذلة، فهيهات أن نرضا بحمد حاكماً علينا، نحن عشاقك يا أبا عبد الله، ضحينا وسنضحي بكل ما لدينا من أجل الحرية والإسلام والوطن، وشعارنا شعارك يا أبا الاحرار .. فمثلنا لا يبايع أمثال يزيد وحمد

"ومثلي لا يبايع مثله"

ليث البحرين
٨-١-٢٠١٢

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق