الوداع


غاب الناس، عمت أجواء الألم، أغلقت غالبية المضايف، حلت علينا دقائق انكسار وترقب وجراحات، ذهبنا للصلاة جماعة رغم البرد القارص والرياح المحملة بالأتربة، كان عددنا معقولاً ولكنه ليس بالحجم السابق، وقلوبنا مفجوعة بصورة مخ أحمد فرحان الذي تناثر على تراب ستره وكيف قد حوصرت جزيرتها تماماً وقطع عن الكثير من أحيائها الماء والكهرباء.

إنها ليلتنا الأخيرة بميدان الشهداء، أعيننا تتأمل الأحبة، أحدنا يودع الآخر بنظرات كلها محبة وايمان بقضاء الله وقدره، وبعد انتهائنا من صلاة العشائين جماعة توجهنا لله، أليس بذكر الله تطمئن قلوب الصابرين، هتفنا وأيدينا مرفوعة إلى السماء، بصوتٍ خاشع وقلبٍ مؤمن بالرب: يا منتقم .. يا منتقم.

تشكلت حلقة ثانية بالسماء، حلقة من نور على اتساع ميدان الشهداء، كنا رجالاً ونساء، أطفالاً وشيوخاً ومن كل الأعمار، ننظر بتعجب لمنظر هذه الهالة النوراء أثناء تكرار الهتاف بدموعٍ صادقة، فواللهِ لم تكن أرواحنا متصلة بالله مثل تلك الليلة، فكانت دائرة النور رسالة للمخلصين منا: أنتم بعين الله فلا تهنوا ولا تجزعوا.

رجعنا لخيامنا متلهفين لنقضي الوقت معاً، نرمق بعضنا بعضاً بصمتٍ قاتل، تبادلت قلوبنا أحاديث محبتها ودفئ حنان تربيتها الراقية، حينها أغمضت عيني لأهرب من دموعٍ تتساقط رغماً عني، أخفيت وجهي فلا استطيع رؤيتهم بدون دموع فقلبي يخفق عشقاً لأحبتي.

لحظات وانطلق مسير الدعاء، من دعاء لدعاء ودموعنا تنهمر عشقاً للشهادة واستعداداً للبذل في سبيل الله، وجاء الرادود الرائع علي حمادي ليقرأ أروع ما سمعت أذناي من دعاء، الله الله من شجى صوته الذي ما إن أغمضت عيناي إلا وانتقلت روحي إلى فيافي كربلاء، أسبح في بحر العشق المنهمر من دموع الحسين والحوراء في ليلة العاشر، نعم لقد عشت تلك الأجواء دمعةً دمعة وغصةً غصة.

ازددنا يقيناً بإرادة الله، توثبنا من دموعنا الإرادة واستعدت أنفسنا للعطاء غداً، ولكن ما زالت الروح تحتاج دفعاً ثورياً يفجر غضبها بعد جرائم مجزرة ستره، وهنا أطلقها بهدوءه الثوري "صمود"، إنه الرمز الوطني الكبير الدكتور عبد الجليل السنكيس، الذي في خلال دقائق معدودات أعاد الغضب للجموع المحتشدة في ميدان الشهداء، كررها مراراً: صبر وصمود وتضحية تساوي جميعاً النصر.

كادت الصورة أن تكتمل، فالإيمان بقدرة الله وحكمته وقضاءه تكامل مع الغضب الثوري والاستعداد للبذل والعطاء، فكلاهما عنوانان لكتابٍ واحد ومنهجٍ واحد، ولكن لابد من مقطوعة تكمل هذه السمفونية الخالدة.

وعندها حانت لحظة الدموع، أصعب لحظات ليلة عاشر ميدان الشهداء، لحظة وداع الأحباب، جاءت إحدى أخواتي لخيمتي، عانقتني بحرارة ودموعها لا تتوقف عن النزول وهي تشمني، ودعتني وداع الذاهب لموته لا محاله، وبعدها ودعت زوجتي وأطفالي، مسحت على رؤوسهم كما يمسح الناس على رؤوس الأيتام، فلا أعلم ما الذي سيحدث لهم بعد غيابي وفقدي، عجزت عن التوصية والكلام تماماً. وهذا حدث مع كل شاب وحرة ودعوا أهاليهم للبقاء في ميدان الشهداء.

لقد تذكرنا في كل موقف من مواقف تلك الليلة توديع الحسين لعائلته، الوداع والفراق وحسرة الغربة وقلة الناصر والثبات رغم الآلام، تأملنا ونحن نودع أحبتنا لوعة سكينة ونساء أهل بيت النبي لأحبتهم، لقد كانت ليلة عاشوراءنا التي لن تُمحى من الذاكرة، إنها الليلة التي مشينا فيها نودع بعضنا بعضاً، نودع ميداننا الغالي، نتصفح حناياه ونقبل أرجائه ونلثم ترابه، الليلة التي سبقت الجريمة الكبرى بإحتلال الميدان واسقاط نصبه وارتكاب الجرائم التي لا حصر لها، إنها ليلة الوداع.

ليث البحرين
١٥-٣-٢٠١٢

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق