ما غسلوه ولا لفوه في كفنِ


هابيل، أول شهيد بالتاريخ، كرمه الله وقربه لتقواه وورعه وأخلاقياته الرفيعة، وشهد القرآن له بذلك حيث ذكر له موقفٌ يخلده العقل البشري ليوم يبعثون، حيث قال لأخيه قابيل "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين".

رفض هابيل أن يمس أخاه بالسوء رغم تيقنه أن قابيل سيقتله غيظاً وحسداً بعد تقبل الله قربان هابيل ورفضه قربان أخاه، فما كان إلا ما توقع الشهيد فقُتِل بيد شقيقه الذي بكاه بعد قتله واحتار ماذا يفعل في جثته لإخفاء جريمته وهذا ما فصله الذكر الحكيم "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِن الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ".

فكان درس الغراب لقابيل هو أولى الدروس للبشرية في حفظ كرامة الميت واستعجال دفنه، وهذا ما ركزت عليه أحاديث الرسول الأكرم وأهل بيته المطهرين من استحباب استعجال تغسيل وتكفين الميت وتشييعه والسير خلف جنازته.

ولكن العجب العجاب ما حدث للرسول المعظم (ص) نفسه ولأهل بيته من بعد رحيله للرفيق الأعلى، فمن شيعوا الرسول كانوا بني هاشم فقط في ظل غياب الآخرون وانشغالهم بأمور السقيفة، وأما ابنته فقد دفنت في ظلمة الليل وهناك الكثير من الروايات التي تذكر دفنها بلا تشييع وما زال قبرها مخفياً لا يعلمه إلا الله والراسخون بالعلم، وهذا علي الذي قضى شهيداً في محراب صلاته دفن سراً في النجف الاشرف وأعفي قبره لسنين طوال، وذاك المجتبى الذي تقطع كبده وتحول لون جسده للإخضرار من شدة السم النقيع الذي تعرض له وبعد استشهاده رُميت جنازته بالسهام فدفن في بقيع الغرقد سابحاً بدمائه الطاهره.

ولم يكتفي المسلمون بذلك فأمعن من نصبوهم بضعفهم وجهلهم في غيهم وطغيانهم، فكان ما حدث في واقعة الطفوف حيث استشهد الحسين ومن معه وقُطِّع بالسيوف إرباً بغضاً لأبيه وجده، وواصلوا عنجهيتهم لدرجة سلبه رداءه وقطع خنصره وذبح رضيعه على صدره، فقضى صابراً محتسباً عطشاناً وحيداً على ارض المعركة، تركوه عارياً بلا ظلٍ او رداء يستره، وجاوزوا بحقدهم حتى السباع والهوام في وحشيتها وخالفوا أوامر ربهم ورسوله اليهم، فتركوا جثث القتلى ومنهم جثمان المولى المبضع بعد الدوس عليه بحوافر الخيول، تركوها تفترش الرمال وتلتحف السماء بلا غسلٍ او كفن.

ومرت الاعوام والازمنة وما زال من يحكمون ويرفوعون شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يكررون المجازر واحدة تلو اخرى، فهذا ما فعله صدام الرجيم والبعثيين في العراق وكرروها بسوريا، فقتل الرضع وانتهكت الاعراض كذلك في مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس، وتجاوزوا حد الجنون في البحرين فهدم من يدعون انهم حماة الحرمين الشريفين بيوت الله ومساجده وأحرقوا كتابه وداسوه بالاحذية، انهم بواسل درع الجزيرة الذين مارسوا ابشع الجرائم بحق شعب البحرين المسالم الأعزل.

لقد قدم شعبنا التضحيات الجسام من أجل الحرية والعدالة، ٨٥ شهيداً مسجلين رسمياً وما خفي كان اعظم هي حصيلة ضحايانا الأولية، منهم الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الرضيع والشاب والكهل، فيحيى قضى رضيعاً كعبد الله الرضيع ومعه ساجدة وقبلهما حوراء وفدك ماتتا أجنة كما قضى المحسن، ومن شهدائنا القاسميون كعلي بداح وعلي الشيخ والسيد هاشم، ومنهم الأكبريون كعلي القصاب وعلي المؤمن، ومنهم العباسيون كعبد الرضا بو حميد وأحمد فرحان، وأخيراً قدمنا احمد اسماعيل الذي بقي بلا غسلٍ او كفن طوال ١٣ يوماً بعد قتله بالرصاص الحي كما بقي الحسين على الثرى.

أحمد اسماعيل، ساعد الله قلب والدتك الحنون الذي صبر على فقدك وعلى بقائك بلا قبرٍ تضمه وتشم تربته فحرمت منك ومن شاهدك، فصبرها صبر زينب التي مضت عن كربلاء والمولى لم يكفن ولم يدفن، وحين علمت بإستشهادك لم تجزع بل حضنت جسدك الطاهر وسط الألم وغسلته بالورد والدموع وهمست في اذنك: (بيضت وجهي بين يدي مولاتي فاطمة الزهراء يوم القيامة يا حبيبي وقرة عيني)، وما زالت ترمق ملابسك وتلثمهم وتحتضن قميصك قبل ان تنام كل ليلة ولسان حالها يقول:

كلما أغمضت عيناً
طيفك الأقدس بالجِفن بدالي
كلما أسرح شيئاً
ملكت صورتك الحسنى خيالي

كلما أنظر من  نورك صدر الدار خالي
هكذا تنقلب الأيام في عيني ليالي
يصفق الباب من الحزن يميناً وشمالِ
يترجاكَ بأن تأتي أيا خير الرجالِ*

عزاء اهلك ومحبوك ومن يفتقدوك انك مضيت على خطى الحسين الشهيد، فإمامك بقى على الثرى ثلاثاً، لم يغسلوه، لم يكفنوه، لم يصلوا عليه، لم يدفنوه، وجسده مقطع متناثر عاري بلا غطاء، تصهره الشمس بلهيبها والارض بحرارتها، لقد واسيته يا احمد فجسدك الذي ذابت ملامحه بقي في ثلاجة الموتى لأسبوعين، حرمنا من خلاله من التوديع وزيارة القبر واهداء الختمات القرآنية وزيارتك ووضع الورود والمشموم على ضريحك حيث لسان حال قلوبنا يصرح بأنين لاهب لجمرات القلوب:

غسلوه بفاضل الدموع .. غسلوه
كفنوه بالورد والشموع .. كفنوه
لحدوه بأعمق الضلوع .. وادفنوه
ولتصبوا غيظكم على من .. حاربوه**

تحية من قلب كل عاشق للشهادة لروحك الحائرة بين السماء والأرض، لعنفوان شبابك الذي ما تحمله مرتزقة حمد فأعدموك برصاصهم وتركوك في ثلاجة خزيهم وعارهم، وهنيئاً لك الفرح والسعادة حين تلقى ابا عبد الله مخضباً بدمائك، معزياً لفاطمة وابيها وبعلها وبنيها بروحك وجسدك، فكما قيل للحسين في رثائه يُقال لك يا شهيد:

مــا  غَـسَـلُوهُ ولا لَـفـوهُ فـي كَـفَنٍ
يَــومَ الـطـفوفِ ولا مَـدُوا عَـلَيهِ رِدا

ليث البحرين
في رثاء الشهيد أحمد إسماعيل
١٣-٤-٢٠١٢

* من قصيدة "أم أبيها" للشاعر عبد الله القرمزي وأداء الرادود صالح الدرازي.
** من قصيدة "قصة الكاظم درسٌ للبشر" للشاعر الشيخ بشار العالي وأداء الرادود صالح الدرازي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق