فاطمة، هي تلك الحوراء الانسية، أم ابيها، ابنة المصطفى وزوج المرتضى وأم سيدي شباب أهل الجنة، انها بضعة المختار التي قضت ظلماً ودفنت سراً فما سار في تشييعها أحد مع بعلها علي إلا ملائكة الله المقربين، وحيداً يجوب الدرب والناس نيام ويدفن زوجته وهم لا يعلمون برحيلها، هناك في مدينة رسول الله بعد أقل من ثلاثة اشهر على رحيله للرفيق الاعلى.
صبر علي على مصابه وهو قلعة التضحية وأمير الاحرار ومدرسة الصمود والاصرار، صبر وفاءً لدين ربه ووصية نبيه له بالثبات والحلم رغم الجراحات حتى يستقيم للدين مكانه ولا تذهب ريح المؤمنين بتفرقهم وتشتتهم.
سار علي في ركب الاسلام مضحياً بنفسه وماله وعياله واحداً تلو واحد، وفاقداً لأركان جيشه وعدته وصحبه حتى عاد وحيداً من بين اقرانه وقضى في محراب مسجده وهو ساجداً لربه، تاركاً عبأ ً ثقيلاً جداً على الحسنين يتحملاه وهما يعلمان جيداً انهما سيحارَبان حقداً وبغضاً لأبيهما.
ومضى الحسن فيما سار فيه والده، جرح بعد جرح وسهم بعد سهم، حتى أحرِقت خيمته وضرب بالخنجر في فخذه شقها للعظم، وسرقت عمامته ولامة حربه وخانه ابن عمه وقائد جيشه عبيد الله بن العباس فسالم الظالمين حفاظاً على البقية الباقية وتأجيلاً للمعركة الفاصلة بين الحق والباطل حتى حين. وما كفاهم ما جرعوه الحسن من عذابات تزول من ثقلها الجبال الرواسي، فسموا كبده الذي افرغه من فمه قطعة ً قطعة وأخضر لون جسده وبعد موته رشقوا نعشه بالسهام المسمومة فدفن وجثمانه يقطر دماً لا لذنبٍ أذنبه إلا إنه ابن علي المرتضى.
وجاء من بعده الحسين فكان لا يوم كيومه في كربلاء، مقطع الاعضاء داست عليه الخيول وكسرت اضلاعه وهرسة عظامه وقُطع رأسه وخنصره وسبيت نساءه وذريته وكاد نسله أن ينقطع لولا الحكمة الالهية ببقاء السجاد عليلاً حاملاً راية النور رغم ظلمات الدنيا المحزونة على مصائبه التي لا مثيل لآلامها وجراحاتها العميقة.
كل ذلك تم ومضى والزهراء والدة الحسنين وزينب غائبة بعد وفاتها وهم صغار، تركتهم مظلومة مضطهده وهم بلا ذنبٍ لهم يخسرون منبع الحنان والأمومة في حياتهم، حتى عوضهم الله بأمٍ حنونٍة عظيمة اسمها فاطمة، إنها بنفس الاسم وبنفس الروح الأبية المعطاءة، فكانت نعم المربية وكانت نعم المحتضنة لآلامهم وأحزانهم.
وفي يوم زواجها طلبت من الكرار ان لا يناديها باسمها كي لا ينجرح ابناء الزهراء ويتذكرون والدتهم، وحين ولادتها بالعباس نذرت ان تقدمه غوثاً وذخراً وسندا وحمايةً دون الحسنين، فرزقها الله بثلاث ابناء آخرين نذرتهم جميعاً في خدمة ابناء فاطمة الزهراء وقد بشرها امير المؤمنين بشهادتهم فخرت لله ساجدة طالبة منه ان يكتب لهم مسك الخاتمة.
وحل يوم عاشوراء الذي انجلت ساعاته الرهيبه عن مقتل ابناء فاطمة الاربعة، وكان للعباس فيه اعظم ابتلاء بقطع كفيه واصابة عينه ونزفه لدماغه على كتفيه مضحياً بروحه فداء لأخيه الحسين فبات مضرب الأمثال بالنخوة والرجولة وصلابة الايمان، فمن لا يذكر موقف العباس وماء الفرات يداعب قدميه مغترفاً ليشرب منه ويطفي نار الظمأ بين احشاءه، ولكنه لم يشرب، القاه وعيناه تدمع دماً فجسده العطشان ليس به قوة ليذرف الدموع، لقد رمى الماء وهو يملكه مزمجراً:
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسين شارب المنـونِ
وتشربــــين بارد المعـــينِ
اي مكانة لك في قلب الرسول وفاطمة يا ام البنين، لقد اوفى رجالك الاربعة البواسل الذين ربيتهم على طاعة ابناء الزهراء بنذرك فقضوا تحت راية الحسين على فيافي كربلاء.
لله درك يا فاطمة يا أم البنين، لقد حزت الشرف من كل مجامعه وما قصرتي في خدمة بيت رسول الله فكنت وما زلت وستبقين علماً ومدرسة ً للفداء في سبيل العقيدة وفي سبيل الحرية، فلقد نهلت منكِ امهات شهدائنا روح العطاء والتضحية، منهن ام يوسف موالي التي ودعت ولدها بعد ايام العذاب بدون غسلٍ او كفن، منهن ام الشهيد احمد اسماعيل التي مسحت جسد ولدها بالورد والدموع تقول ما قالته زينب في كربلاء (اللهم تقبل منا هذا القربان)، ومنهن ام الشهيدين العليين الشقيقين اولهما قضى تحت مركبات المرتزقة والآخر جنيناً بغازات حمد السامة القاتلة فصح لها لقب ام البنين في ثورة الكرامة في بلدي المحتل البحرين.
فسلامٌ عليك يا ام البنين، والسلام على ارواح اولادك الشهداء الاربعة، ونعاهدك ان نمضي في خط التضحية ما حيينا، فهو نذر نذرناه للخالق جل وعلا حتى النصر او الشهادة، هو نذر في سبيل الله وعلى ملة رسوله، هو نذر للحرية والعدالة والانسانية، هو نذرنا وفاءً لكِ يا أم التضحيات العظيمة.
ليث البحرين
في رثاء ام البنين
٥-٥-٢٠١٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق