إن من سنة الله في خلقه تداول الأيام بين الناس، فلا توجد أمة لها الخلود ولا توجد قبيلة لها الغلبة، فمن كان سيداً بالأمس يصبح غداً ذليلاً والعكس صحيح، فكم من أمةٍ أعطاها الرب بسطة في الخلق وقوة بالجسم قد أفناها واستخلف من بعدها قوماً آخرين.
ولكي يثبت الله الحجة على البشرية بمختلف انتماءاتها وتنوع مبادئها وأعراقها، أرسل الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين لينذروا من لم يتم إنذارهم من جهة وليبلغوا رسالات وأحكام خالقهم من جهةٍ أخرى، حتى يأتي الله بوعده بنصرة الأنبياء وهزيمة الظالمين.
ولكن لحكمة إلهية وفي ابتلاء عظيم للأنبياء فإن الله يمهل الظالمين المعتدين كثيراً، فيذرهم في طغيانهم يعمهون، لدرجة وصول الكثير من أتباع الرسل لمرحلة الشك في حقيقة الدعوة ودخول الريبة للقلب بسبب عدم نزول البلاء على من ظلموا المؤمنين من الذين كادوا لهم وأذاقوهم صنوف العذاب، فترى الرسل محاصرين بكم هائل من الشك والخذلان ولا يبقى معهم إلا من أتى الله بقلبٍ سليم وهم القلة النقية التي لا شائبة فيها.
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
ويصل الامر احياناً كما ذكرت الآية الكريمة ان يصل بعض الرسل المعصومين من الخطأ لمرحلة الشك في جدية العذاب، وهذه المرحلة يصلون لها بعد رحلة صبر لا مثيل لها ومعاناة في سبيل الدعوة لله عز وجل، ولكن وصولهم لهذه المرحلة لا يعني الخدش بعصمتهم بمقدار ما تعنيه الآية من درجة الألم الكبيرة التي وصلوا إليها بسبب قلة الاتباع وجراحات التخوين والتجهيل التي تصل لحد وصف النبي بعد عمرٍ من الدعوة والرشاد أنه مجنون يهجر لكبر سنه أو ساحر كذاب فيضرب ويعزر وهو حبل الله المدود للناس.
ورغم ذلك ينصر الله المرسلين نصراً عزيزاً مقتدراً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، فينجي من العذاب من يستحق النجاة ويدخل الباقين في خلود الجحيم.
هذه حال الرسل مع الصبر في سبيل الله ودينه وعبوديته، وهم المتصلون بالسماء وحياً وفكراً ومنطقاً، فكيف بحالنا ونحن المذنبون المقصرون في عبادة الخالق، أليس منا مرتكب المعاصي ومنا من ينصب نفسه ولياً للأمر وهو رمز للكذب والذوبان في الملاهي، كيف لبعضنا ان لا ييأس ويرهق ويتعب ويرى الافق أمامه مظلماً لا نور فيه.
هنا وهنا فقط يحب ان نشعل شمعة النور في طامورة اليأس والتعب، لنعيد عجلة الدوران لكثير من القلوب التي أرهقتها آلام الصبر على فراق الاحبة ومنهم الشهيد ومنهم الاسير، منهم من فقد عينه ومنهن من حملت من سفاح، ومنهم من اغتصبوه ومنهم من عوقوه، كل هذه الجراحات التي لا حصر لعددها وعذاباتها صبت جام ألمٍ ضخم فوق رؤوسنا فتخاذل الكثيرون وفقدت ثورة ١٤ فبراير زخمها الجماهيري ودليل ذلك تراجع عدد الحاضرين في المسيرات التي باتت متكررة مملة في الكثير من الأحيان.
وحالة التعب والجنوح التدريجي لليأس حالة انسانية طبيعية كاذب من يكابر وينفيها نفياً قاطعاً، ولكنها ما تفتأ أن تكون وقود للنهوض مجدداً نحو مجابهة كل معوقات الحياة للوصول للأهداف السامية للحراك الانساني الأخلاقي.
وبثورتنا هناك الكثير من الأحداث التي لو تمعنا بها لإزددنا إصراراً وشعلةً وحماساً لن ينتهي إلا بإسقاط نظام القتلة، اسمحوا لي ان أطلق عليها "آيات الانتصار"، وهي كما سأذكره في النقاط التالية:
١- استمرار اغلاق ميدان الشهداء: فمجرد وجود الجيش لهذه اللحظة وإغلاق النظام الكلي للميدان ووضع الأسلاك الشائكة حواليه مع نقاط التفتيش، كل ذلك يكفي دليلاً ان الشعب منتصر رغم تكالب تحالف دولي سعودي-أمريكي-خليفي عليه للقضاء على ثورته ورغم ذلك فشلوا لهذه اللحظة وسيفشلون، وسيبقى اغلاق محيط الميدان وتحريم أرضه دليل الفشل الكلي لكل أعداء الحرية والكرامة.
٢- إعمار المساجد المهدمة: فبعد حملة الهدم التي طالت اكثر من ٣٥ مسجداً يذكر فيها اسم الله، جاء امر العم سام للعائلة الخليفية علناً وفي خطاب متلفز للرئيس الامريكي باراك اوباما بوقف هدم المساجد بالبحرين والسماح للشيعة بإحياء شعائرهم، فتوقف الهدم عند العدد المذكور وانقلب سحر التكفيريين عليهم، فأصبح آل خليفة ومواليهم لعنة في ألسن المؤمنين بالدنيا ولهم خزي وعذاب الآخرة لإرتكباهم أبشع الجرائم التي يندى لها الجبين، وبدأ الشعب تدريجياً الصلاة في اغلب المساجد المهدمة وكذلك في بنائها فكان اول المساجد التي اعيد تشييدها وافتتاحها هو مسجد الصحابي الجليل سلمان الفارسي في بلدة راية العز "نويدرات الصمود". ولن ينفع النظام حملة المليون مصحف لتبييض صورته المعتمة فحرق مرتزقته لكتاب الله أكسبهم عاراً لا نظير لقباحته.
٣- الوحدة الوطنية: وهذه من اهم مكتسباتنا خلال عام ونيف من الثورة، فترى الاسلامي والعلماني، الشيعي والسني، البحراني والهولي والعجمي، السافرة والمحجبة، المثقف والعامل والطبيب والمهندس، كل أصناف المجتمع متحدة ومتفقة على ضرورة التغيير وأن يحكم الشعب نفسه بنفسه بعيداً عن العبودية والذلة والتبعية العمياء لنظام آل خليفة، وهو الأمر الذي إفتقدناه منذ الحركة الوطنية في خمسينيات القرن العشرين ولكنه عاد لنا ببركة دماء شهداء الثورة.
٤- خلق قيادات شبابية ابداعية للتغيير: وهي من مكتسبات الوطن الكبرى، فعصيان الكرامة وبنك الكرامة وطوق الكرامة وغيرها من الافكار هي ابداعات خالصة من شباب البحرين، الذين ابدعوا ايما ابداع في شتى المجالات، فكانت الثورة كالاعصار الذي فجر هذه الطاقات فأفرزت لنا المصورين والمنتجين والكتاب والشعراء والمثقفين والمحللين والمسعفين، كل ذلك بفضل هذه الثورة وهو انجاز كبير جداً سيستفيد منه الوطن في بناء مستقبله.
٥- شرعنة وسائل الدفاع المقدس: وهذا انجاز كبير آخر تحقق بفضل ثورتنا المباركة، فما كان يعتبر قبل الثورة تخريب وارهاب وعنف غير مبرر من الشباب لإغلاقهم الشوارع بالاطارات المحترقة واستخدام وسائل الدفاع المقدس كالمولوتوفات وما شابه، بات في العرف الشعبي من مبادئ الجهاد والتضحية، وباتت له حاضنة شعبية كبيرة تتفهم لجوء الشباب لهذه الوسائل دفاعاً عن النفس، وهو ما يعني فيما يعنيه تبدل نوعي في خط التصعيد الثوري ونقطة ارتكاز لكل تحرك نوعي مستقبلي من شأنه زلزلت كراسي الحكم الخليفي.
هذه النقاط الخمس وغيرها الكثير هي دليل انتصار الشعب البحريني على قاتليه، وهي دليل الصمود رغم التراجع بالساحات، فهي ليست إلا استراحة للكثير من المحاربين قبيل الهبة العاصفة التي ستحقق لنا مرادنا ومطالبنا العادلة، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون لو كنتم مؤمنين.
ليث البحرين
١٢-٥-٢٠١٢
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق