نفسي فداء وطني


في مثل هذه الساعات، كتب هذا الشعار أيقونة الشهداء في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك"، كتبها ولم يكن كاذباً ولو بمقدار حبة خردل، ضحى بنفسه في سبيل دينه وحريته ووطنه، لقد كتبها عليٌ ومن بعدها رحل المؤمن.

مر عامٌ على المذبحة، ليلة ويوم ١٧ فبراير ٢٠١١، حيث لم تُراعى حرم الله ولا حدوده، هناك حيث عرج لله ٤ شهداء ومئات الجرحى منهم اثنان أصيبا بإعاقة دائمة. أكثر من ٦٠ مفقوداً لم يعرف مصيرهم إلا بعد أسبوع وأكثر، إنها مجزرة قدر الله برحمته أن لا يذهب بها عشرات الشهداء.

ليلة غاب عنها القمر، نام بها الآمنين في خيام الدوار، بطمأنينة وابتسامات المحبين، باتوا بالميدان ومطلبهم الرئيسي اصلاح النظام وجعل رئيس الوزراء منصباً متداولاً بالإنتخاب المباشر من الشعب، وإعطاء الصلاحيات الكاملة  للمجلس المنتخب. وكذلك المحاكمة العادلة لقتلة مشيمع والمتروك.

كانت هي تلك الليلة، التي وعد الملك قبلها بليلة وولي العهد بنفس الليلة، كلاهما وعدا بالسماح بالاعتصام السلمي بالبقاء والحفاظ على الشعب بنساءه ورجاله وأطفاله وشيوخه بأمنٍ وأمان حتى الوصول لصيغة تضمن السلم الاهلي والعدالة الاجتماعية.

ودع الغالبية الميدان بعد منتصف الليل وهم يتمنون المبيت فيه الليلة القادمة وهي ليلة الجمعة، كانوا يتوقعونها ليلة هادئة مليئة بالحب الصادق الذي جمع الآلاف في ذلك الميدان، ترجيناها سلامٌ حتى مطلع الفجر.

تحركت عقارب الساعة، لدغت قلوبنا وهي تشير للثالثة فجراً، بين الخيام، أطفال نائمة ونساء قلوبها مطمئنة، رجال تحرس الميدان، بعضهم يقرأ القرآن وغالبيتهم نيام، هنا توقف الزمن وحلت الواقعة، قوات الملك الخاصة بملابسها السوداء وعتادها وسلاحها الذي منذ انشائها لم تستخدمه، بتدريبها الذي اشرفت عليه المخابرات الامريكية، تهاجم شعب البحرين الذي كان الميدان قلبه واللؤلؤة رمزه.

صورٌ لا تُمحى من الذاكرة، رضيعٌ مختنق في سيارة والده يبكي، حاول الشباب كسر النافذة لإنقاذه ولكنهم عجزوا، فالغازات السامة جعلت الرؤية معدومة والتنفس مستحيل. إمرأة سقطت على الأرض وقام أحد الشباب بانتشالها وسط الغازات وعندها اخترقت يده وصدره رصاصات حية واضرج بالدماء. عجوز بالسبعينات من عمرها اغمي عليها وتم دهسها وسط الغمام ولم يعرف مصيرها وكانت بين الحياة والموت طوال أيام.

أي غدر هذا الذي عجنت به طينة الظالمين، كيف يجوز لهم فعل هذه الجريمة النكراء، في ساعات الفجر والناس نائمة في ميدانٍ عام، الغازات والسلاح بأقسى وأشد أنواعه يستخدم لذبح شعبٍ مسالم، وكل ذلك تم بأمر الملك الذي اجتمع بأركان مجلسه العسكري وبحضور نجليه خالد وناصر، أمرهم بإبادة الثورة الاصلاحية فحق عليه اللعن ووصمه بالساقط خلقاً وديناً وعرفاً ومنطقاً، ولذلك من منا لم يهتف قلبه ويلهج لسانه بشعار الثورة "يسقط حمد".

واللهِ يسقط حمد، يسقط رأس العهر السفاح الذي لم يرحم رضيعاً ولا شيخاً، لا امراةً ولا رجلاً، يسقط لكل ما يمثله من عار وخسة ودناءة  فهو الغادر بأبشع صوره، والقاتل بكل تجلياته، وهل ننسى جسد العريس القمر محمود ابو تاكي وهو مضرجٌ بدمائه وكان يدافع عن عرضه، أيعقل ان نتناسى جسد الحاج علي خضير الممزق من الرصاص الانشطاري.

أنظر بعينيك لترى رأس الشهيد عيسى عبد الحسن متهشماً، بعد إن تم إعدامه، قيده أحد قتلة وزارة الداخلية وأكبه على وجهه كما كب الشمر سبط النبي على ثرى كربلاء، وعوض السيف استخدم سلاحه ووضع فوهته في جبهته وناثر اشلائها في منظرٍ بشع مؤلم لا يمكن تصديقه.

وبعد كل هذا جاء اول فرسان ميدان الحرية وايقونة شهداءه، بطل يوم الخميس الدامي، ودع اهله وتوجه للميدان لإنقاذ الاطفال والنساء، لبس كفنه وتسربل درع ايمانه، مضى وقد رأى وسمع ما حدث للشهداء الثلاثة، ولكنه الاخلاص في طاعة ربه والايمان بعدالة قضيته دفعاه للمضي قدماً رغم الخطورة البالغة.

ترجل الفارس عن صهوته مع أقرانه، حاصره القتلة عند اشارات القفول، سقط بعد اصابته وبقي وحده يعاني آلام جرحه، لم يصرخ مستغيثاً لأحدٍ غير ربه، الله الله يا علي ما اروعك حتى اقبل الجاني ليمزق اعضائك، لقد قطعوه ارباً على قارعة الطريق، قطعوه وهو يكبر ويحمد ربه، اخرجوا امعائه من جسده، طعنوه ولم برحموه وتركوه ينزف لساعات تصهره الشمس بلهيبها والاسفلت بحرارته.

هكذا كان يوم الخميس الدامي، حفر نفسه في ذاكرتنا للأبد، فمن محمود أبو تاكي وعلي خضير لعيسى عبد الحسن وعلي مؤمن، كوكبة صدقوا ما عاهدوا الله عليه، سارعوا لله فقبل منهم صدق نيتهم، وسيبقون الشعلة التي تنير لنا درب آلام الحرية. ومنهم ومن دمائهم رفعنا شعارنا المركزي:
"من يوم الخميس انهينا الكلام .. الشعب يريد اسقاط النظام".

فسلامٌ عليكم يا شهداء البحرين، سلامٌ من عاشقٍ ذاب في عرفان ارواحكم وتاه في محبة اخلاصكم، سلام من يرى في موته سعادة وحياته مع الظالمين برما، فهيهات هيهات نبيع تضحياتكم، هيهات نتنازل عن كل قطرةٍ من دمائكم.

نعاهدكم ونبايعكم، يا مدرسة النضال ومعدن الرجال الرجال، واللهِ لن نهدأ حتى يسقط النظام، وشعارنا الخالد الذي تعلمناه من أعظم فرسان ميدان الشهداء ونقشناه في اعماق قلوبنا:
"نفسي فداء وطني".

ليث البحرين
١٦-٢-٢٠١٢

عائد إلى الميدان


فلسطين، جرح الانسانية الأكبر، الأرض التي اغتصبت ظلماً من أهلها ليقيم الصهاينة أعداء الله والإنسانية لهم وطناً على حساب حقوق الشعب الأصلي، الذي هدمت مساجده وكنائسه، شرد أهله إلى بقاع العالم، صودرت أراضيه وكل ما يملكه من حق في الحياة.

وقد قدمت فلسطين نماذج للعطاء الانساني، أثروا الدنيا بتجاربهم وعلمهم، كافحوا من أجل قضيتهم وقدموا أرواحهم في سبيل الوطن السليب، فمنهم العلماء ومنهم الأطباء وكذلك الكتاب والشعراء.

ومنهم الشهيد غسان كنفاني، من أبرز الكفاءات التي قدمتها فلسطين للعالم، فهو أحد رواد الأدب الثوري والانساني، ورغم عمره القصير الذي لم يتجاوز السادسة والثلاثين إلا إنه كان نحلة العطاء الفكري والأدبي من أجل بلاده، واستمر في جزيل عطاءاته حتى اغتالته المخابرات الصهيونية "الموساد" في لبنان سنة ١٩٧٢.

ولعل أبرز رواياته وإبداعاته كانت "عائد إلى حيفا"، فلقد لخص بها حياته وما عاشه من عذابات هو وكل أبناء وطنه المحتل سنة ١٩٤٨ وكيف تم تهجيرهم على يد العصابات الصهيونية وتحت الرعاية البريطانية والأوروبية، ومن هذه الجراحات:
١- احتلال الوطن.
٢- مصادرة الحق في الحياة.
٣- مصادرة الأموال والأراضي وكل ما يملكه الشعب الأصلي.
٤- احلال شعب آخر بديل.
٥- عذابات التهجير والتشرد والحرمان.

والمفارقة الحقيقية هنا، فجراحات فلسطين التي احتلها الصهاينة وأعلنوا دولتهم بها قبل ٦٤ عاماً هي ذاتها جراحات البحرين التي احتلها آل خليفة قبل ٢٣٠ عاماً، بل إن ما حدث بالبحرين قد تجاوز ما حصل ويحصل في فلسطين بكثير، فبلدي المتكون من أرخبيل جزر هو الأصغر في المنطقة مساحة ولكنه الأكبر في عذابات شعبه وجراحات أبنائه.

فإن كانت فلسطين محتلة من الصهاينة وهم يهود الهوية فإن البحرين محتلة ممن رايته تصدح بالشهادتين وبلاده بها الحرمين الشريفين ورغم ذلك يفتخر المحتلون انهم هدموا خلال ٣ أشهر أكثر من ٣٥ مسجداً وحاربوا شعائر إخوانهم في الدين، بل إن آل خليفة عند أول قدومهم للبحرين فعلوا مثل ذلك من محاربة لشعائر الشعب الاصيل وهدم مساجده الأمر الذي استوجب انتفاضات متلاحقة حتى احترم المحتلون مساجد وشعائر الشعب مجبرين.

أما قتل النفس ومصادرة الحق في الحياة، فهذا الأمر لا يحتاج لدليل على الكيان الصهيوني ومجازره التي لا حصر لها كصبرا وشاتيلا وقانا وجنين وغزة والقائمة تطول، وكذلك الأمر بالنسبة لآل خليفة الذين فعلوا ما فعله الصهاينة وزادوا عليهم، وتفردوا ببعض الأمور فعدد الحرائر بالبحرين خلال سنة تجاوز عديد السجينات في سجون اسرائيل خلال ٢٠ عاماً وأكثر، ونسبة شهداء البحرين منذ احتلالها أكثر بكثير من نسبة شهداء فلسطين بالنظر لتعداد السكان، وتشهد على ذلك القرى المهدمة المنكوبة التي مُحيت من الخارطة بكل وحشية، مثل بربورة وبربغ والفرسانة.

وفي جانب مصادرة الأموال والأراضي وما يملكه الشعب، يكفي للتأكيد أن الصهاينة وآل خليفة وجهان لعملة واحدة ما فعله كلاهما في بلدات الشعب الأصلي وسرقتهم لكل ما يملكه المواطنون، فالبحرين الجزيرة التي تحيط بها المياه من كل الجوانب لا يسمح لشعبها بإستخدام أكثر من ٣٪ فقط من شواطئها، والباقي  من السواحل أصبح بقدرة قادر مُلك للعائلة الحاكمة وزبانيتها، والمضحك المبكي أن يتم تمليك أهم وأغلى أرض استثمارية بالبحرين وهي أرض المرفأ المالي بدينار واحد فقط لرئيس وزراء آل خليفة الذي ما زال مستمراً في منصبه لأكثر من ٤٠ سنة متواصلة، علماً إنها تساوي مئات الملايين من الدنانير، بينا لا يملك نصف الشعب حتى شقة صغيرة تؤيه فترى شبابه يعيشون مع زوجاتهم وأطفالهم في حُجرٍ صغار في بيوت آبائهم أو في شققٍ محدودةٍ مؤجرة.

ولعل أكبر جرائم الصهاينة هي احلالهم لشذاذ الآفاق محل الشعب الفلسطيني وتغييرهم للخريطة الديموغرافية على أرض الواقع، وهذا عينه ما فعله آل خليفة الذين جنسوا مئات الآلاف خلال السنوات العشر الأخيرة لتغيير التركيبة الشعبية والخريطة الديموغرافية للبحرين، فمن جنسوهم كانوا من طائفة معينة يراد بهم خلق توازن لصالح النظام، وهذه الجريمة لا يمكن أن يغفرها الشعبين الفلسطيني والبحراني للصهاينة وآل خليفة.

أما أفظع عذابات الشعب الفسطيني المظلوم فهي التشريد واللجوء لأقاسي لعالم والحرمان من لقمة العيش، فكم من رضيعٍ مات من شدة الظمأ، وكم من حرةٍ أسقط حملها، وكم من عائلة نامت بالشوارع لا ناصر لها، وكم من رجل مثقف عمل بأشق الأعمال بعد أن كان مترفاً، وغيرها مما لا يمكن حصره بسبب هذا التهجير القصري عن البيت والوطن.

بالله عليكم ألم يحدث كل ذلك في البحرين، ألم يهجروا أجدادنا للكويت والعراق وإيران وعمان، وهناك من هجروه ووصل لزنجبار والهند ومدغشقر، ومساجد وأسماء المهجرين تتكلم عنهم وعن أصولهم البحرانية، قرى عدة تم هدمها على أهليها ومورست أبشع الاقطاعيات لتشريد الشعب الأصلي وسرقت جهده وآثاره، تشهد كل ثنايا الوطن على ذلك ومنها أطلال القرى المنكوبة، والمساجد المهدمة والمصاحف المحروقة.

لذلك ثار شعب البحرين يوم ١٤-٢-٢٠١١، وتوجه مئات الآلاف من أبنائه لدوار اللؤلؤة مطالبين بالإصلاح، وقد حصلوا على مواثيق مغلظة من ملك البحرين بأنهم بأمنٍ وأمان، وإذا به يكرر فعلة آبائه وأجداده بشراسةٍ أشد وخبث لا مثيل له ويأمر هو شخصياً بالهجوم على العوائل النائمة بكل طمأنينة، ليهجم بقواته الخاصة المدربة على الحروب ليس على جيشٍ محتل بل على شعبه الأعزل بنسائه وأطفاله وشيوخه، فكان يوم الخميس الدامي فجر ١٧-٢-٢٠١١ واستشهد من استشهد من خيرة أبناء الوطن.

واستمرت العذابات وخيانات آل خليفة، واستخدموا كل أسلحتهم من بلطجية مدنيين مسلحين، إلى مرتزقة مجنسين مددجين بكل أنواع الاسلحة النارية والانشطارية "المحرمة دولياً" والغازات السامة، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بسابقة تاريخية هي بيعهم البحرين لأربع جيوش من خارجها وإعطائهم الحكم عملياً للسعودية والسعي العلني للانضمام لها بلا مقابل، ليأكدوا مجدداً أنهم ليسوا أبناءً للوطن ولا يصلحوا أن يبقوا حكامه.

وفعل جيش درع الجزيرة بقيادة السعودية ما فعله، من هدم مساجد موثقة بالصور والفيديوات، وحرق مصاحف طبعت بالسعودية، وسجن الآلاف واعتقال مئات النساء واغتصاب بعضهن وثبتت للآن ثلاث حالات إحداها لطفلة في بيت والدها أثناء إعتقاله، كل هذا وأكثر حدث والقوم يرفعون شعار لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله.

لذلك كان ولابد أن نعود من حيث انطلقنا كما قالها وأحس بها قلب غسان كنفاني، فعودته لحيفا وعكا حيث مسقط رأسه هي الحل الحقيقي الذي ينتهي به نظام بني صهيون، وعودتنا لدوار اللؤلؤة الذي تطهر بدماء شهدائنا الأبرار فصار "ميدان الشهداء" هي بداية الحل الحقيقي برحيل بنو خليفة عن سدة الحكم بالبحرين، فبعودتنا ننطلق مجدداً نحو مطلبنا الحقيقي وهي الحرية الصادقة لكل أبناء الشعب، حيث لا تفضيل حزبي ولا محاصصة طائفية، وتستمر البحرين حرة عربية غير محتلة ولا تابعة لأحد كائناً من كان، هذا هدفنا وهذا شعارنا وهذا مطلبنا ولن نحيد عنه مطلقاً، ووعدنا الذي سنعلقه فوق صدورنا ونسعى له حتى يتم تحقيقه طال الزمان أو قصر، إننا جميعاً بأطفالنا ونسائنا وشيخونا وكل ما نملكه "عائدون إلى الميدان".

ليث البحرين
١٠-٢-٢٠١٢

نوحي على الأولاد


دمعة في وسط الصمت، سكونها قاتل، لا أستطيع اظهارها كي لا يرى القتلة ضعفي ولا أنشر بين أحبتي ظليمتي فيقتلهم همي، هي الدمعة التي أبوح بها بحرقة قلبي كل ليلة، والناس نيام مطمئنون وأنا أعاني غربتي وجرحي لوحدي، هي قصيدة مطلعها الحزن وأوسطها الشجن وآخرها قهرٌ ووجعٌ وألم.

ماذا عساني أعبِّر وماذا عساني أقول، فلا يغمض جفناي إلا وأراك تناديني تناغيني وتبتسم لي، تهمس لي بكل طمأنينة وهدوء "أماه لا تجزعي إن موعدنا الجنة".

يا بدر حياتي ويا أملي، أمر صباح كل يوم لأوقظك لمدرستك، أتناسى غيابك فيوجعني شعور فقدك في كل حين، عندها أسقط منهدة الأركان على سريرك، فأضم قميصك ألثمه وصورتك أقبلها، أعبر عن شوقٍ لا متناهٍ ولا حدود لمداه.

كيف أنساك وطعامك المفضل ما زلت أحضره، ومزاحك معي ومع أبيك وأخوتك وأنفاسك تجوب أنحاء المنزل، فهناك كنت تجلس مع أخوانك تتناقش بحدة حول نتائج فرقك المفضلة وهناك تلعب معهم بالألعاب الالكترونية، وتلك منضدتك حيث تضع كتبك وترمي بملابسك عليها لأرتبها لك بعد تعنيفك.

بريق عينيك يا قرة العين يزلزل كياني، أذكر تلك النظرة منذ نعومة أظفارك، وكيف كانت جميلة مصحوبة بابتسامة بريئة عذبة حين نطقت لأول مرة بكلمة "ماما"، وأذكر كيف كنت أذاكر معك دراستك وواجباتك، كنت عصبية معك فاعذر أمك لجهلها فقد كنت تعلمني أكثر مما اتعلم منك.

أردتك ذخري في شيخوختي وكبري، سندي الذي أضع عليه حملي فيحميني يوم حاجتي وضعفي، أتراك تتركني وقد بنيت كل رجائي عليك من بين أخوتك، فلِمَ تمتنع عن الرد يا ولدي، أجبني إن كنت قادراً وإطفأ بعض جمرات أحشائي فقد استعرت ناراً منذ رحيلك عني وبعدك القصري عن حياتي.

حلمت بيوم زفافك، يوم أراك بكامل أناقتك عريساً لخيرة نساء بلدك، ويهنئني الجميع بفرحتك، ويالها من فرحة سُرقت مني، وهذه زفات الشباب تترى في حينا وقريتنا وقد زففتك إلى حور عينك، حنتك دمك وفرشك تراب قبرك ومعازيمك غرباء اللحد والكفن.

أنا ميتةً حية من بعدك يا فلذة فؤادي، ابتسم مجاملةً للآخرين وأمثل دور الأحياء في عالمٍ صبغت اطاره بدمك القاني، فعقلي ما زال يسألني كيف عذبوك حتى الموت في سجونهم، كيف احتملت الألم والصفعات والصعقات الكهربائية، وهل اغتصبوك ام اكتفوا بالتحرش الجنسي، يقطعني هذا التفكير الذي لا بداية ولا نهاية له، هل رفق بك رصاصهم حين أصابك، وعلى أي موضعٍ كريم وقعت ضرباتهم ونيرانهم، هل قبلتك وشممتك في ذاك الموضع الذي عذبوك فيه أم تراني مقصرةً بحناني ومحبتي لك.

ولدي، إن عزائي ليس بزفافٍ رمزي وتشييعٍ يحضره الآلاف، إنما عزائي حين أرى الميدان مليئاً بالرجال من امثالك، من صنعتم الحياة في موتكم ودمتم بعزة ورحمة من ربكم، وسلوتي بمصيبة سيدة النساء، التي كانت تعلم بعذابات فلذات كبدها، نعم علمت بقتل الحسن على يد زوجه وكيف سيكون جسده مخضراً من السم النقيع، علمت ان الحسين يحز رأسه بسيف الشمر من الوريد الى الوريد وغسله دمه ولحده أرض كربلاء وسمائها، ولكنها ما جزعت ولا تندمت بل قدمتهما قرباناً لله وعزته ونصرةً لرسوله ودينه، وأوصت بآخر لحظاتها في الدنيا ابنتها زينب أن تشم صدر الحسين حيث موضع حوافر الخيول وتقبل نحره حيث موضع سيف ابن ذي الجوشن، بهذه السيدة العظيمة وتضحياتها الجسام سلوتي وصبري وسكوني، فبكائي من بكائها وعزائي بالله وبها، ولسان حالي يقول:

نـوحي عـلـى الأولاد يا زهره الحزينه
في كربلا واحد و واحد في المدينه

اتـفـرگوا عـنـج وصـار الشمل تبديد
من جعده واحد گضه و واحد گضه من يزيد
واحـد دفـن عـنـدج و واحد عنج بعيد
گبـر الحسن عندج و گبر حسين وينه

"لسان حال أمهات قواسم الثورة"

ليث البحرين
٧-٢-٢٠١٢

لن تمحو ذكرنا


طغاة العالم، قتلته وسفاحوه، مجرموه المتكالبون لسحق الانسانية وتدمير الحياة، لا ينفكون ولو للحظة واحدة منذ بزوغ شمس البشرية وإلى يومنا الحالي من أن يفعلوا كل ما بوسعهم من أجل تثبيت سلطانهم ولو أدى ذلك لبحور من الدماء تعوم عليها عروشهم.

فرعون مصر، النمرود، هتلر، صدام، المتوكل العباسي والأمثلة تطول، كلهم مارسوا الإجرام بأبشع مفرداته، منهم من أحرق معارضيه، منهم من اغتصب النساء وقتل الأطفال، منهم من وضع معارضيه في إسطوانات البناء وهم أحياء وصبها عليهم، منهم من اخترع المفرمة البشرية وجعل باقي الأحشاء المتقطعة سماداً للزراعة، ومنهم ومنهم ومنهم ...

ورغم كل هذه الفظائع التي يندى لها الجبين، لم يستطع كل هؤلاء القتلة أن ينتصروا مع وجود كل القوة الأمنية وتزوير التاريخ لصالحهم بسبب نفوذهم ومصالح المرتبطين معهم، ولكنهم هزموا شر هزيمة، بل أصبحوا لعنة التاريخ التي ما مر انسان متجرد من مصالحه وفكره الطائفي والعرقي إلا وشهد بخسرانهم الأبدي.

فكم من مقيدٍ غلب بقيوده الذي قيده، وكم من سجينٍ خلدته غياهب السجون بطلاً هزم طامورة الظالمين، وكم من معلقٍ عارياً بلا ثياب سطر بصبره وحلمه ملحمة الإباء والتضحية.

والأمثلة بالتاريخ متعددة، لنا منها نماذج لؤلؤية الخلود، منهم ويليام والاس، بطل أسكتلندا الذي قاتل الإنجليز في وطنه إلى أن حررها وزحف إلى أراضيهم مقاتلاً صلباً حتى خانه بعض مترفي بلده وسلموه لملك إنكلترا مقابل الجاه والألقاب، ذات الملك الذي قتل عائلته وزوجته وبعد أن أسره أعدمه وقطع رجليه ويديه وصلب جذعه على بوابة قصره، ولكن هيهات ما كان انتصاراً للقاتل، فالمقتول خلده التاريخ بلقبٍ لا مثيل له فهو "القلب الشجاع" الذي صرخ في آخر لحظات حياته من أعماق روحه "الحرية" بينما لا يوجد ذكر في التاريخ للسفاح الذي قطع أوصاله، الملك الذي أصبح نسياً منسياً.

ومثال آخر لإنتصار الأسير على من عذبه، هو بطل التحرر الثائر نيلسون مانديلا، والكل يعلم كم عانى في سجنه من عذابات خاصة لا يتحملها بني البشر، ٢٨ عاماً وأكثر بالسجن عاش أغلبها مكبلاً بأصفاد الحديد الثقيل طوال يومه وكثيراً ما قضى حاجته أو نام والأصفاد تحيط برقبته ويديه ورجليه. هكذا أفنى مانديلا زهرة شبابه وكهولته أسيراً، ما تنازل عن حقوقه ولا عن قيادته للجناح العسكري في حزبه ولا تراجع عن مطالبه بالعدالة والمساواة بين الييض والسود، فأثمر صبره نصراً مؤزراً جعله من بين الشخصيات النادرة التي يعرفها كل طفل وشيخ بالعالم ويقف احتراماً لشجاعتها وثباتها عرفاناً بجميلها الأبدي على كل البشرية.

ولعل أروع أمثلة انتصار الأصفاد على الجبابرة، وانهيار جدار العبودية والذل رغم الأسر والسبي والتعذيب والتنكيل، هو ما حدث لركب الحسين عليه السلام بعد حادثة الطف، موكبٌ يقوده القتلة ويمشي به النساء الأيامى والاطفال اليتامى، ليس معهم إلا رجل واحد عليل مكبل بالأصفاد وجامعة الحديد تم لحمها بجلده من رقبته حتى صدره وظهره، يُضربون بالسياط إن سقط أحدهم، ومَن برقبته بداية سلسلة الذل هو زين العابدين العليل المتعب اليتيم بلا أب ولا أم ولا إخوان، ونهاية هذه السلسلة برقبة الحوراء زينب، تعالج بدموعها عذابات السجاد، تمسح بيديها على قلوب المفجوعات، تحافظ على من تبقى من البيت النبوي وتفتديهم بروحها إن استوجب الأمر.

 وعلى وقع هذه المهانة الرهيبة بعد العز والدلال، وصل الركب الحزين للشام بآلامه، وصل والشماتة تستقبل أهل البيت والأفراح والرقص يحيط بهم، حتى أدخلوهم على يزيد الذي أمعن في إهانتهم وإذلالهم، وفي قمة المأساة حانت لحظة الانتصار، فكل ما جرى بالطف وما قبله وبعده جاءت لحظته الحاسمة، لحظة النصر، لحظة انكسار الشامتين في جبروت طغيانهم، لقد مرغت زينب أنف يزيد بالحضيض، خلدت نصر الحسين المعفر على ثرى كربلاء على يزيد المنعم في قصور الشام، وقالتها مدوية: فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا.

هذه مدارس الصمود انتصرت مدى التاريخ، فالقيود لا تعني الهزيمة لمن لديه مبادئ، فهي ليست إلا قلادة النصر الدائم وهزيمة السجانين، وما زنازين الطغاة إلا معابد للنصر المبين، فهنياً لكل رمز وحر وحرة تعذبوا في طوامير آل خليفة، بخٍ بخٍ لكم يا قرة العين، ولا تبالوا بالحديد الذي تقيدون به، فصبركم على أبشع أصناف التعذيب والإهانات هي السقوط العملي الواقعي لنظام عصابات الإرهاب المدعوم خليجياً ودولياً، وليكن شعاركم شعار الحوراء في قصر يزيد وهي منتصرة بالأصفاد وهو جالسٌ منعمٌ مهزومٌ فوق عرشه البالي:
والله ثم والله يا آل خليفة .. لن تمحو ذكرنا.

ليث البحرين
٣-٢-٢٠١٢