‏جرح الزمن


لكل أم شهيد ترى الدموع تنهمر بدون مقدمات، ولكل أم معتقل ترتفع الأكف بالدعوات، فترى التبجيل والتقدير وتقبيل الجباه من علامات احترامها وتقديسها لما قدمته في سبيل الله ومن أجل الوطن.

ولكل ابنة شهيد أو كريمة معتقل محبة خاصة بالقلوب، فالناس تتشرف بخدمتها وتحفها الأرواح العطرة من كل جانب وترتفع لها الدعوات فهي ابنة من ضحى في سبيل الكرامة. وكذلك أخت كل معتقلٍ وشهيد، لها ترنو النساء كمثال يحتذى بالصبر والثبات، فما قدمه أخوها للشعب حري به تقديره وتقديرها إكراماً وإجلالاً لمكانته السامية.

والفن الثوري يفصل ذكر والدة الشهيد وابنته وأخته بشئ من التفصيل، فالوالدة هي من ربته وترعرع بين أحضانها فارساً هماماً لا يهاب الموت في طريق الحق، والابنة سواء كان والدها مسجوناً او شهيداً فهي في حكم اليتيمة لما تقاسيه من آلام ابتعاد قدوتها ومربيها، وأما الأخت فهي الفارسة الشجاعة التي وقفت مع أخوها وعائلته وأعانته وتعينه على جراحاته لتضمدها بدموعها وصبرها العظيم.

بينما يتم ذكر الحلقات الثلاث المضيئة من الحرائر اللائي يحطن بالشهيد بشئ من التفصيل والتكريم، فغالباً مع بالغ الأسف يتم إغفال حلقة مهمة وقد تكون الرئيسة في حياة المعتقل أو الشهيد، إنها زوجته أم أطفاله التي تفقد عنفوانها بمجرد فقدان شريك حياتها.

فقرينة المعتقل السياسي تعاني الأمرين مما لا يمكن وصفه من ألم ولا يُطاق تحمله من مشاق بسبب غياب زوجها، فمن الصعوبات البالغة انها تفتقده في سكونها وحركتها، فوجوده محوري في حياتها التي تنتقل من الاستقرار إلى الانهيار الكبير والضياع لتحملها أعباء فوق طاقتها فتراها تعمل لتكسب قوة يومها بجدٍ وصبر، وتعود من العمل لتباشر مهامها المنزلية من تدريس للأطفال وتربية لهم، ومن تلطيف الجو لهم والتخفيف من معاناتهم وتعبهم، فتلقي على عاتقها جبالاً من الهموم والمشاكل لتجعلهم في استقرار عاطفي هي تفتقده، فتعطي ما لا تملكه وهو سخاء لا مثيل له في عالم التضحية والمثابرة.

وتستمر معاناة زوجة المعتقل وتتواصل بمواجهتها لنظرات الشفقة والعطف من الجميع مما يلزمها أن تصبر كي لا تنكسر، وصبرها هو من يحملها على الذهاب لزيارة زوجها وهو مُكبل ومُهان ومُعذب في السجون، تدخل السجن رافعة ً لرأسها بشموخٍ ملؤه المقاومة والكبرياء وهي تخفي شوقها لنظرات من تفتقده وهو من كان يمسح للأمس القريب عنها همومها ويشاركها صعاب الحياة.

ولزوجة الشهيد فاجعة ما بعدها فاجعة، معذبة ومنكوبة ومجروحة بجرحها الذي لن يندمل، فزوجة المعتقل يرجع لها نبض الحياة بمجرد رؤيته، فكيف بمن شريك حياتها فارقها للأبد ورحل ولن يعود، وإن كانت صابرة محتسبة فعليها القيام بتربية صغارها لتقوم بدور الأب والأم وهي منكسرة الجناح بلا حاميها منزوعة الروح بلا من شاركته كل صغيرةٍ وكبيرة في حياتها.

فهذي زوجة الأسير تخاطب من غيبته القضبان بأنينها: ارجع لي فلقد حن قلبي لمرآك، ارجع لي فأطفالي قطعوا نياط قلبي شوقاً لرؤياك، ارجع فقد كبرت في كل يوم عاماً كاملاً أقاسي غيابك ووجع عذاباتك وأنا عاجرة عن دفع آلام التعذيب عنك، ارجع فالنوم قد جافى عيوني مذ غبت عني فهل لك أن تعود لينبض قلبي المثخن بالجراح بنبضه الحنون من جديد؟.

وتلك إمرأة الشهيد تناغي حبيبها وهي واقفة على قبره، حاملة لصورته، بيدها اليمنى أطفاله واليسرى قميصه تشمه وتلثمه: عزيز قلبي إن غيابك قتلني من الوريد للوريد، جعلني تائهة في ملمات الحياة، أوَ ترضا أن أموت كل يومٍ مرتين، مرة حين أصحو فلا أراك بجانبي ومرة حين اخرج مع اطفالي فلا اراك توصلهم الى مدرستهم ولا من أحدٍ بعدك يلعب معهم ويمسح عني وعنهم الضيق والألم، كيف لك أن تقسو وترحل ولما يحن بعد أوان الرحيل، ذهبت للخلود والنعيم وتركتني للحزن والألم صابرة راضية بقضاء الله لعلي بذلك أوفي لك حقك علي في هذه الدنيا الفانية.

ألا ساعد الله قلوب زوجات الشهداء والمعتقلين، ساعد الله قلوبكن الطاهرة وأرواحكن الصابرة، كأني بإحداكن تجلس من نومها صباح كل يوم لترمق بدمعةٍ خفيةٍ شطر محل نوم زوجها، ترمقه بعبرةٍ مخنوقة لا تعلم كيف الوصول لعودته وهو المقيد بسلاسلهم المعذب بسياطهم أو المدفون تحت أطباق الثرى، فجرح زوجات الشهداء والمعتقلين جرحٌ كبير عصيٌ عليه أن يندمل، فجرحهم باقٍ ومهما حدث لن يتبلسم وإن عاد المعتقلون سالمون لأسرهم، فالجرح وافرازاته مستمرة باقية ما بقي الدهر، إنه "جرح الزمن".

ليث البحرين
اهداء لزوجات الشهداء والمعتقلين
٢٦-٥-٢٠١٢

حديث القيود

‏حديث القيود

يُحكى أن في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، حيث كان التحالف الكنسي مع أنظمة الحكم السبب الرئيسي في تخلف وعذاب شعوب القارة العجوز، تم انتهاك الاعراض وقتل عشرات الآلاف وكثير منهم قتلوا حرقاً فقط لمطالبتهم بأبسط مقومات الحياة ألا وهي الطعام والشراب والسكن المتواضع للمبيت فيه.

ورغم أن المطالب عادلة جداً وليس لها ضرر على نظام الحكم أو الكنيسة صاحبة اليد الطولى في أوروبا آنذاك، ورغم عدم ارتفاع السقف في المطلب من الأمور المعيشية لمطالب سياسية تحررية، فقد جوبهت مطالب الشعوب الاوروبية بالحديد والنار، فقتل من قتل وسبي من سبي وعذب من عذب، وتم تدمير بلدات كاملة في سبيل قمع أي حركة تمرد تطالب بحق الانسان في الحياة الكريمة.

واقع الأمر أن سبب حملات القتل الجماعي والتعذيب المبرمج ضد شعوب تلك القارة في تلك الحقبة المعتمة هو خوف السلطة وخصوصاً طرفها الديني المتمثل في خط الكنيسة التي استعبدت الناس لمئات السنين من أن تتحول المطالب المعيشية لمطالب حقوقية ترفع الغطاء عن تحالف النظام مع النخبة الدينية ضد الشعوب، فمطلب الطعام والسكن قد يتبع بمطلب خطير وهو المعرفة، وهذا ما لا تريده الكنيسة حيث أن العلم سيفتح طلاسم الغيبيات الدينية التي تم استعباد الناس بسببها.

ولكن ما نفع الظلم والتعذيب والتهجير والاغتصاب أبداً، فكما قال المسيح عليه السلام أن ما كنتم تخافون الهمس به بالظلام سيأتي يوم تنطقون به في العلن في وضح النهار، وهذا ما تم خصوصاً بعد انتصار الثورة الفرنسية وبداية عصر الصناعة مروراً بالحربين العالميتين في القرن العشرين والتي أنهت سيطرة النظم التقليدية المجرمة ومعها تسلط الكنائس على رقاب الناس الطامحة للحرية والعيش الكريم.

ونفس المنطق يتم تكراره الآن بطريقة أو بأخرى، فترى الأنظمة والأحزاب إن أفلست استخدمت ورقة الدين ليكون حصنها الحصين في مواجهة مخالفيها تحت شعار التكليف الشرعي وهو شعار فضفاض لا إطار عام واضح لتبيان معانيه، فما كان في القرون الوسطى في أوروبا انتقل لنا في القرن ٢١ ميلادياً، فترى من يدافع عن نظام آل خليفة الذي هدم المساجد وأحرق المصاحف هو اسلامي سني وكذلك من يدافع عن نظام الحكم السوري الذي أباد الحرث والنسل هو اسلامي شيعي.

فما زالت القيود الفكرية والعقدية مهيمنة على شعوب المنطقة، وهو واقع مر تعاني منه منطقتنا بشكل جلي ناهيك عن تسلط الأنظمة العربية والإسلامية تحت شعار الإستهداف من الإمبريالية الأمريكية، لدرجة استغفال قطاعات واسعة بمسميات الطائفة والدفاع عنها.

وما حصل ويحدث بالبحرين الجريحة ليس ببعيد عن هذا الواقع، فقد تم هدم مساجد الله وإحراق قرآنه واستباحة الحرمات وتعذيب الرجال واغتصاب النساء تحت شعار الدفاع عن أهل السنة والجماعة ومع الأسف صدق هذه الكذبة الكثيرون، وما يؤلم القلب ويقطع نياطه أن يصدق الكثير بسبب تبعيتهم للطائفية العمياء لأكذوبة التحالف الشيعي الأمريكي الصهيوني ضدهم، وكيف يكون ذلك والبحرين تحت الإشراف الأمريكي المباشر وتعتبر مركز الدعارة بالخليج وبها أكبر إسطول بحري أمريكي بالعالم خارج أراضي الولايات المتحدة.

ورغم ذلك نقول أن واقع التاريخ وسنة الله في أرضه هي التغيير الدائم، فما كنا نخاف قوله بالسر صرنا نقوله بالعلن رغم العذابات والجراحات الكبرى التي تشربناها بصبر وصمود قل نظيرهما، فالشهداء والأسرى والجرحى هم نبراسنا الذي نمضي بدربه بثبات نحو النصر الإلهي ولو بعد حين.

وما عذابات الرموز وإهانتهم وإذلالهم واغتصاب بعضهم إلا نصر مؤزر سيخلده التاريخ إلى يوم يبعثون، فما سرده أحد مفجري الثورة وقائد أولى مسيراتها يوم ١٤-٢-٢٠١١ الأستاذ عبد الوهاب حسين من عذابات يندى لها الجبين ليس إلا النصر بذاته، فكيف برجل تم تعريته والتحرش به لأيام طوال بحيث منع عنه قضاء حاجته إلا أمام جلاديه وكانوا يومياً كانوا يبصقون في فمه ويجبرونه على بلع قذاراتهم ورغم ذلك يقف ليسرد هذه العذابات غصة ً غصة ويخاطب قاضي محكمة النظام الخليفية ليحاكم من سجنه وعذبه ويهتف بثبات وصبر وحكمة ويكرر ما صرح به في ميدان الشهداء إنه مع الشعب في حق تقرير المصير واختيار النظام الأنسب ليحكمه سواء جمهورية أو غيرها، فبالله عليكم هل يوجد شعب لديه قائد تاريخي كالأستاذ عبد الوهاب حسين يمكن هزيمته أو إذلاله أو كسر إرادته؟

(لا تبكي يا عبد الهادي الخواجة فأنت المنتصر وهم المهزومون)، هذا لسان حال شعبنا وهو يسمع تفاصيل الاعتداءات الجنسية الإجرامية التي تعرض لها عبد الهادي الخواجة وهو يتعذب في السجون الخليفية لمطالبته بالحرية والعدالة وحقوق الشعب المسلوبة، ورغم كل ما جرى عليه هزم الخواجة النظام بإضراب أسطوري عن الطعام تجاوز المئة يوم وما زال مستمراً فيه حتى الحرية أو الشهادة.

لا تنحني يا شعبي لما سمعت من عذابات رموزك وعلمائك، فتضحياتهم وصبرهم الذي تزول دونه الجبال الرواسي هو مفتاح نصرنا القادم، اجعلوا رؤوسكم عالية فرموزكم هزموا أسوأ أنواع التعذيب والترهيب بإرادة فولاذية صلبة لا مثيل لها، هي إرادة الإيمان بالله والإيمان بكرامة بني آدم، فما خُلقنا لنكون عبيداً لأحد غير خالقنا ولن نكون عبيداً لغيره ما حيينا، والطاعة لله ورسوله ولمن يضحي قولاً وعملاً في سبيل مبادئه هي السعادة التي نرنو لها، فما زلنا منتصرين رغم الجراحات وسنبقى منتصرين رغم العذابات، فالقيد مصيره أن ينكسر والحق لابد له أن ينتصر.

ليث البحرين
٢٣-٥-٢٠١٢

إذا استيأس الرسل


إن من سنة الله في خلقه تداول الأيام بين الناس، فلا توجد أمة لها الخلود ولا توجد قبيلة لها الغلبة، فمن كان سيداً بالأمس يصبح غداً ذليلاً والعكس صحيح، فكم من أمةٍ أعطاها الرب بسطة في الخلق وقوة بالجسم قد أفناها واستخلف من بعدها قوماً آخرين.

ولكي يثبت الله الحجة على البشرية بمختلف انتماءاتها وتنوع مبادئها وأعراقها، أرسل الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين لينذروا من لم يتم إنذارهم من جهة وليبلغوا رسالات وأحكام خالقهم من جهةٍ أخرى، حتى يأتي الله بوعده بنصرة الأنبياء وهزيمة الظالمين.

ولكن لحكمة إلهية وفي ابتلاء عظيم للأنبياء فإن الله يمهل الظالمين المعتدين كثيراً، فيذرهم في طغيانهم يعمهون، لدرجة وصول الكثير من أتباع الرسل لمرحلة الشك في حقيقة الدعوة ودخول الريبة للقلب بسبب عدم نزول البلاء على من ظلموا المؤمنين من الذين كادوا لهم وأذاقوهم صنوف العذاب، فترى الرسل محاصرين بكم هائل من الشك والخذلان ولا يبقى معهم إلا من أتى الله بقلبٍ سليم وهم القلة النقية التي لا شائبة فيها.

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

ويصل الامر احياناً كما ذكرت الآية الكريمة ان يصل بعض الرسل المعصومين من الخطأ لمرحلة الشك في جدية العذاب، وهذه المرحلة يصلون لها بعد رحلة صبر لا مثيل لها ومعاناة في سبيل الدعوة لله عز وجل، ولكن وصولهم لهذه المرحلة لا يعني الخدش بعصمتهم بمقدار ما تعنيه الآية من درجة الألم الكبيرة التي وصلوا إليها بسبب قلة الاتباع وجراحات التخوين والتجهيل التي تصل لحد وصف النبي بعد عمرٍ من الدعوة والرشاد أنه مجنون يهجر لكبر سنه أو ساحر كذاب فيضرب ويعزر وهو حبل الله المدود للناس.

ورغم ذلك ينصر الله المرسلين نصراً عزيزاً مقتدراً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، فينجي من العذاب من يستحق النجاة ويدخل الباقين في خلود الجحيم.

هذه حال الرسل مع الصبر في سبيل الله ودينه وعبوديته، وهم المتصلون بالسماء وحياً وفكراً ومنطقاً، فكيف بحالنا ونحن المذنبون المقصرون في عبادة الخالق، أليس منا مرتكب المعاصي ومنا من ينصب نفسه ولياً للأمر وهو رمز للكذب والذوبان في الملاهي، كيف لبعضنا ان لا ييأس ويرهق ويتعب ويرى الافق أمامه مظلماً لا نور فيه.

هنا وهنا فقط يحب ان نشعل شمعة النور في طامورة اليأس والتعب، لنعيد عجلة الدوران لكثير من القلوب التي أرهقتها آلام الصبر على فراق الاحبة ومنهم الشهيد ومنهم الاسير، منهم من فقد عينه ومنهن من حملت من سفاح، ومنهم من اغتصبوه ومنهم من عوقوه، كل هذه الجراحات التي لا حصر لعددها وعذاباتها صبت جام ألمٍ ضخم فوق رؤوسنا فتخاذل الكثيرون وفقدت ثورة ١٤ فبراير زخمها الجماهيري ودليل ذلك تراجع عدد الحاضرين في المسيرات التي باتت متكررة مملة في الكثير من الأحيان.

وحالة التعب والجنوح التدريجي لليأس حالة انسانية طبيعية كاذب من يكابر وينفيها نفياً قاطعاً، ولكنها ما تفتأ أن تكون وقود للنهوض مجدداً نحو مجابهة كل معوقات الحياة للوصول للأهداف السامية للحراك الانساني الأخلاقي.

وبثورتنا هناك الكثير من الأحداث التي لو تمعنا بها لإزددنا إصراراً وشعلةً وحماساً لن ينتهي إلا بإسقاط نظام القتلة، اسمحوا لي ان أطلق عليها "آيات الانتصار"، وهي كما سأذكره في النقاط التالية:

١- استمرار اغلاق ميدان الشهداء: فمجرد وجود الجيش لهذه اللحظة وإغلاق النظام الكلي للميدان ووضع الأسلاك الشائكة حواليه مع نقاط التفتيش، كل ذلك يكفي دليلاً ان الشعب منتصر رغم تكالب تحالف دولي سعودي-أمريكي-خليفي عليه للقضاء على ثورته ورغم ذلك فشلوا لهذه اللحظة وسيفشلون، وسيبقى اغلاق محيط الميدان وتحريم أرضه دليل الفشل الكلي لكل أعداء الحرية والكرامة.

٢- إعمار المساجد المهدمة: فبعد حملة الهدم التي طالت اكثر من ٣٥ مسجداً يذكر فيها اسم الله، جاء امر العم سام للعائلة الخليفية علناً وفي خطاب متلفز للرئيس الامريكي باراك اوباما بوقف هدم المساجد بالبحرين والسماح للشيعة بإحياء شعائرهم، فتوقف الهدم عند العدد المذكور وانقلب سحر التكفيريين عليهم، فأصبح آل خليفة ومواليهم لعنة في ألسن المؤمنين بالدنيا ولهم خزي وعذاب الآخرة لإرتكباهم أبشع الجرائم التي يندى لها الجبين، وبدأ الشعب تدريجياً الصلاة في اغلب المساجد المهدمة وكذلك في بنائها فكان اول المساجد التي اعيد تشييدها وافتتاحها هو مسجد الصحابي الجليل سلمان الفارسي في بلدة راية العز "نويدرات الصمود". ولن ينفع النظام حملة المليون مصحف لتبييض صورته المعتمة فحرق مرتزقته لكتاب الله أكسبهم عاراً لا نظير لقباحته.

٣- الوحدة الوطنية: وهذه من اهم مكتسباتنا خلال عام ونيف من الثورة، فترى الاسلامي والعلماني، الشيعي والسني، البحراني والهولي والعجمي، السافرة والمحجبة، المثقف والعامل والطبيب والمهندس، كل أصناف المجتمع متحدة ومتفقة على ضرورة التغيير وأن يحكم الشعب نفسه بنفسه بعيداً عن العبودية والذلة والتبعية العمياء لنظام آل خليفة، وهو الأمر الذي إفتقدناه منذ الحركة الوطنية في خمسينيات القرن العشرين ولكنه عاد لنا ببركة دماء شهداء الثورة.

٤- خلق قيادات شبابية ابداعية للتغيير: وهي من مكتسبات الوطن الكبرى، فعصيان الكرامة وبنك الكرامة وطوق الكرامة وغيرها من الافكار هي ابداعات خالصة من شباب البحرين، الذين ابدعوا ايما ابداع في شتى المجالات، فكانت الثورة كالاعصار الذي فجر هذه الطاقات فأفرزت لنا المصورين والمنتجين والكتاب والشعراء والمثقفين والمحللين والمسعفين، كل ذلك بفضل هذه الثورة وهو انجاز كبير جداً سيستفيد منه الوطن في بناء مستقبله.

٥- شرعنة وسائل الدفاع المقدس: وهذا انجاز كبير آخر تحقق بفضل ثورتنا المباركة، فما كان يعتبر قبل الثورة تخريب وارهاب وعنف غير مبرر من الشباب لإغلاقهم الشوارع بالاطارات المحترقة واستخدام وسائل الدفاع المقدس كالمولوتوفات وما شابه، بات في العرف الشعبي من مبادئ الجهاد والتضحية، وباتت له حاضنة شعبية كبيرة تتفهم لجوء الشباب لهذه الوسائل دفاعاً عن النفس، وهو ما يعني فيما يعنيه تبدل نوعي في خط التصعيد الثوري ونقطة ارتكاز لكل تحرك نوعي مستقبلي من شأنه زلزلت كراسي الحكم الخليفي.

هذه النقاط الخمس وغيرها الكثير هي دليل انتصار الشعب البحريني على قاتليه، وهي دليل الصمود رغم التراجع بالساحات، فهي ليست إلا استراحة للكثير من المحاربين قبيل الهبة العاصفة التي ستحقق لنا مرادنا ومطالبنا العادلة، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون لو كنتم مؤمنين.

ليث البحرين
١٢-٥-٢٠١٢

نذر يا أم البنين


فاطمة، هي تلك الحوراء الانسية، أم ابيها، ابنة المصطفى وزوج المرتضى وأم سيدي شباب أهل الجنة، انها بضعة المختار التي قضت ظلماً ودفنت سراً فما سار في تشييعها أحد مع بعلها علي إلا ملائكة الله المقربين، وحيداً يجوب الدرب والناس نيام ويدفن زوجته وهم لا يعلمون برحيلها، هناك في مدينة رسول الله بعد أقل من ثلاثة اشهر على رحيله للرفيق الاعلى.

صبر علي على مصابه وهو قلعة التضحية وأمير الاحرار ومدرسة الصمود والاصرار، صبر وفاءً لدين ربه ووصية نبيه له بالثبات والحلم رغم الجراحات حتى يستقيم للدين مكانه ولا تذهب ريح المؤمنين بتفرقهم وتشتتهم.

سار علي في ركب الاسلام مضحياً بنفسه وماله وعياله واحداً تلو واحد، وفاقداً لأركان جيشه وعدته وصحبه حتى عاد وحيداً من بين اقرانه وقضى في محراب مسجده وهو ساجداً لربه، تاركاً عبأ ً ثقيلاً جداً على الحسنين يتحملاه وهما يعلمان جيداً انهما سيحارَبان حقداً وبغضاً لأبيهما.

ومضى الحسن فيما سار فيه والده، جرح بعد جرح وسهم بعد سهم، حتى أحرِقت خيمته وضرب بالخنجر في فخذه شقها للعظم، وسرقت عمامته ولامة حربه وخانه ابن عمه وقائد جيشه عبيد الله بن العباس فسالم الظالمين حفاظاً على البقية الباقية وتأجيلاً للمعركة الفاصلة بين الحق والباطل حتى حين. وما كفاهم ما جرعوه الحسن من عذابات تزول من ثقلها الجبال الرواسي، فسموا كبده الذي افرغه من فمه قطعة ً قطعة وأخضر لون جسده وبعد موته رشقوا نعشه بالسهام المسمومة فدفن وجثمانه يقطر دماً لا لذنبٍ أذنبه إلا إنه ابن علي المرتضى.

وجاء من بعده الحسين فكان لا يوم كيومه في كربلاء، مقطع الاعضاء داست عليه الخيول وكسرت اضلاعه وهرسة عظامه وقُطع رأسه وخنصره وسبيت نساءه وذريته وكاد نسله أن ينقطع لولا الحكمة الالهية ببقاء السجاد عليلاً حاملاً راية النور رغم ظلمات الدنيا المحزونة على مصائبه التي لا مثيل لآلامها وجراحاتها العميقة.

كل ذلك تم ومضى والزهراء والدة الحسنين وزينب غائبة بعد وفاتها وهم صغار، تركتهم مظلومة مضطهده وهم بلا ذنبٍ لهم يخسرون منبع الحنان والأمومة في حياتهم، حتى عوضهم الله بأمٍ حنونٍة عظيمة اسمها فاطمة، إنها بنفس الاسم وبنفس الروح الأبية المعطاءة، فكانت نعم المربية وكانت نعم المحتضنة لآلامهم وأحزانهم.

وفي يوم زواجها طلبت من الكرار ان لا يناديها باسمها كي لا ينجرح ابناء الزهراء ويتذكرون والدتهم، وحين ولادتها بالعباس نذرت ان تقدمه غوثاً وذخراً وسندا وحمايةً دون الحسنين، فرزقها الله بثلاث ابناء آخرين نذرتهم جميعاً في خدمة ابناء فاطمة الزهراء وقد بشرها امير المؤمنين بشهادتهم فخرت لله ساجدة طالبة منه ان يكتب لهم مسك الخاتمة.

وحل يوم عاشوراء الذي انجلت ساعاته الرهيبه عن مقتل ابناء فاطمة الاربعة، وكان للعباس فيه اعظم ابتلاء بقطع كفيه واصابة عينه ونزفه لدماغه على كتفيه مضحياً بروحه فداء لأخيه الحسين فبات مضرب الأمثال بالنخوة والرجولة وصلابة الايمان، فمن لا يذكر موقف العباس وماء الفرات يداعب قدميه مغترفاً ليشرب منه ويطفي نار الظمأ بين احشاءه، ولكنه لم يشرب، القاه وعيناه تدمع دماً فجسده العطشان ليس به قوة ليذرف الدموع، لقد رمى الماء وهو يملكه مزمجراً:
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسين شارب المنـونِ
وتشربــــين بارد المعـــينِ

اي مكانة لك في قلب الرسول وفاطمة يا ام البنين، لقد اوفى رجالك الاربعة البواسل الذين ربيتهم على طاعة ابناء الزهراء بنذرك فقضوا تحت راية الحسين على فيافي كربلاء.

لله درك يا فاطمة يا أم البنين، لقد حزت الشرف من كل مجامعه وما قصرتي في خدمة بيت رسول الله فكنت وما زلت وستبقين علماً ومدرسة ً للفداء في سبيل العقيدة وفي سبيل الحرية، فلقد نهلت منكِ امهات شهدائنا روح العطاء والتضحية، منهن ام يوسف موالي التي ودعت ولدها بعد ايام العذاب بدون غسلٍ او كفن، منهن ام الشهيد احمد اسماعيل التي مسحت جسد ولدها بالورد والدموع تقول ما قالته زينب في كربلاء (اللهم تقبل منا هذا القربان)، ومنهن ام الشهيدين العليين الشقيقين اولهما قضى تحت مركبات المرتزقة والآخر جنيناً بغازات حمد السامة القاتلة فصح لها لقب ام البنين في ثورة الكرامة في بلدي المحتل البحرين.

فسلامٌ عليك يا ام البنين، والسلام على ارواح اولادك الشهداء الاربعة، ونعاهدك ان نمضي في خط التضحية ما حيينا، فهو نذر نذرناه للخالق جل وعلا حتى النصر او الشهادة، هو نذر في سبيل الله وعلى ملة رسوله، هو نذر للحرية والعدالة والانسانية، هو نذرنا وفاءً لكِ يا أم التضحيات العظيمة.

ليث البحرين
في رثاء ام البنين
٥-٥-٢٠١٢

لا تبكي يا عزرائيل

عزرائيل، من ملائكة الله الشداد وعبيده المقربين، من أشرف الكائنات وأرقى المجدين في خدمة خالقه، المخلصين في طاعته وعبادته، وهو الذي أوكل له الرب جل وعلا مهمة حصد أرواح البشر وقطفها حين تحين ساعتها وهو مصداق قوله تعالى (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ).

فالمليارات من البشر قد قطف أعمارهم عزرائيل، فمنهم من مات غريقاً ومنهم المحترق، منهم المريض ومنهم الجائع الغريب، ومنهم من مات تحت التعذيب في دهاليز السجون، كلهم حصدهم وسيحصد أرواحنا جميعاً عاجلاً أم آجلاً فهو الموكل بهذه المهمة الذي لا يتوانى عن القيام بواجبه رغم مشاق عمله العظيم، فخروج الروح من الجسد هو أصعب أمر يمر به الانسان فكيف بملك الموت وهو من حصد أرواح الأجنة في أرحام أمهاتهم، وكم من موءودة دفنت تحت الثرى ظلماً وعدواناً أخذ روحها ملك الموت وهو في كظمٍ عظيم، وكم من رجلٍ وإمرأة قد حصد أرواحهم وهو يبكي على حالتهم الكارثية من جوعهم وعطشهم أو التعذيب الوحشي الرهيب الذي تعرضوا له وقضوا بسببه ببلائهم العظيم.

ما حالك يا عزرائيل وأنت تحصد روح صلاح آل موسى، أبكيت عليه كما بكيت على شهداء كربلاء وأنت تنظر أجسادهم قد أثخنتها الجراح وأدمتها ضربات السيف ورصاصات السلاح.

ما حالك يا عزرائيل وأنت تقطف روح صلاح ولديك علم اليقين بإنتظار زوجته وعياله الخمسة لعودته للمنزل، كما هي عادته بعد كل ليلة محتضناً لهم ومواسياً لأيتام شقيقه الذين كفلهم، أتدري أن زوجته بحثت عنه من بيتٍ إلى بيت، وفي جوفها نار كتمتها بصبرها، تسأل من يفتح الباب لها صباح اليوم تالي لحصدك روح حبيبها، تسألهم بصوتٍ منكسر وقلبٍ منفطر "شفتوا صلاح؟ تدرون وينه صلاح؟ طلع البارحة وما رجع". لقد ذكرتنا زوجة صلاح بموقف عقيلة الطالبيين وهي تبحث عن جسد أخيها الحسين ولسان حالها يتمتم دماً:
أدور عليك يا ابن أمي .. ولا واحد يدليني
أناديك بضعيف الصوت .. يا مظلوم حاجيني

ما حالك يا عزرائيل وأنت تأخذ روح صلاح، أبكيت عليه دماً وأنت ترمق جسده مبضعاً بالرصاص، رجلاه ويداه محطمة وأضلاعه مهشمة، رقبته مكسورة وجلد صدره محترق، فبماذا ذكرك جسد صلاح يا ملك الموت؟ أين طارت بك الذكريات في تلك السويعات الرهيبة؟.

رغم عدم مقدرتك على جواب أسألتي واستحالة ردك علي، لكني أعلم بما ذكرك به جسد شهيدنا صلاح يا عزرائيل، لقد عرفته أحاسيسي وتيقن به قلبي، لقد تذكرت جسد الحسين وهو مرضضاً بحوافر خيول بني أمية، لقد أوجعك مصاب صلاح فعاد بك للطفوف التي حصدت بها قمر بني هاشم وقد تناثر دماغه على كتفيه وأصيبت عينه وقطعت كلتا كفيه، لقد أبكاك صلاح يا ملك الموت الكريم فصوت قراءته للقرآن الكريم اقشعرت له ملائكة العرش العظيم.

هنيئاً للبحرين صلاحها، هنيئاً للشهيد ثباته وتضحياته، هنيئاً لصلاح دموع عزرائيل التي لا تتساقط إلا لكل فارسٍ حسينيٍ عظيم، وهنيئاً لصلاح جنة الخلد حيث سيشرب بكف المرتضى من حوض الكوثر شربة لن يظمأ بعدها أبدا.

ليث البحرين
في رثاء الشهيد القائد صلاح آل موسى
٢٧-٤-٢٠١٢